يتوالي تضامن الشعوب المسلمة لما يحدث من مأسي للأقليات المسلمة في ميانمار وتركستان الشرقية، وبالرغم من وجود عدة أقليات مسلمة في كل من ميانمار والصين تنتشر بطول البلاد، إلا أن وقوع الروهينجا والإيغور في موقع الصراع الجيوسياسي بين الصين وأمريكا، انتهى بدفع المسلمون لثمن ذلك الصراع، حيث قامت الصين بحملات ممنهجة لقمع الإيغور وطمس هويتهم الدينية والثقافية ومحاولة إدماجهم قصراً في المجتمع الصيني منعاً لأي محاولة من الغرب لدعمهم، وعدم تكرار ما حدث في إقليم التبت، والذي قدمت أمريكا للانفصاليين فيه الدعم السياسي والعسكري على مدار عقود، فيما قام الرهبان في ميانمار -وبدعم صيني- بحملات لقتل وطرد الروهينجا من إقليم أراكان الاستراتيجي، من أجل أن تنفذ الصين مشروعات نفطية ولوجيستية لربطها بخليج البنغال الغني بالنفط، في إطار محاولات الصين لإحياء مشروع (ممر بورما) التاريخي، والذي نجح في فك الحصار البحري عنها في الحرب العالمية الثانية.
أمريكا تحاصر غرب الصين
بعد نجاح الثورات الملونة في وصربيا وجورجيا وأوكرانيا في بداية الألفية، والتي أطاحت بحكام موالين لروسيا وأتت بحلفاء لواشنطن، وتزامن ذلك مع دخول حلف الناتو عام 2001 لغرب الصين في أفغانستان بحجة الإطاحة بنظام طالبان، فيما قامت أمريكا وفرنسا في عام 2001 بإنشاء قاعدتين عسكريتين في كل من قيرغيزستان وطاجكستان المجاورتان للصين، وبذلك تم تطويق الصين من الغرب عبر التمركز في ثلاث دول. ومن ناحية أخري فقد زاد الخناق الأمريكي على حدود الصين من الجنوب، حيث الصراع على ثروات بحر الصين الجنوبي بين الصين والدول المتشاطئة، ولذا استغلت أمريكا تلك الخلافات وعمدت لتمركز نصف قوتها البحرية حول بحر الصين الجنوبي فضلا عن التعاون العسكري والمناورات مع كل من ماليزيا والفلبين وتايلاند وأندونيسيا، في محاولة لصناعة أوراق ضغط على الصين.
وفي غرب الصين اقتربت الموجة الثانية من الثورات الملونة من حدود الصين، حيث شهد عام 2005 ثورة في قيرغيزستان الملاصقة للصين من الغرب، تلتها ثورة الزعفران في عام 2007 التي اندلعت أحداثها على حدود الصين الجنوبية في ميانمار وقادها الرهبان البوذيين، بعد ارتفاع أسعار المحروقات بطريقة جنونية، فيما اندلعت عدة اضطرابات في مناطق غرب الصين وتحديدا في منطقة التبت عام 2008، وتركستان الشرقية عام 2009. وتتهم الصين أمريكا بدعم الاحتجاجات في إقليم التبت، فضلا عن دعم حكومة التبت في المنفي، فيما تردد أمريكا أنها تدافع عن حقوق الإنسان التي تنتهكها الصين أثناء قمعها للإنتفاضات والثورات لشعوب إقليمي تركستان الشرقية والتبت، والتي احتلتهما الصين بعد الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1949 و1951.
الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأقصى
تبدلت المواقف الأمريكية تجاه الصين بطريقة دراماتيكية على مدار القرن العشرين من التحالف إلى العداء، فبعد الدعم الأمريكي الكبير للصين إبان الحرب الصينية اليابانية في ثلاثينات القرن الماضي، إلى حد إنشاء ممر بورما التاريخي عام 1937 الذي اخترق الجبال بغرض نقل المعدات العسكرية للصين عبر بورما (ميانمار حاليا)، والذي بدأ من إقليم أركان على ساحل خليج البنغال لينتهي في إقليم يونان في جنوب الصين، والذي لعب دور كبير في تعديل دفة الحرب لصالح الصين بعد تطويق اليابان للسواحل الصينية.
ومع انتصار الشيوعيون الصينيون في الحرب الأهلية عام 1949 ومن ثم التقارب مع السوفيت في الخمسينات، تبدلت الموقف الأمريكي من الصين، بدعم الانفصاليين في التبت لحد إقامة معسكر تدريبي لهم في كلورادو الأمريكية، كما قامت أمريكا بدعم الانتفاضات الشعبية في إقليم التبت، لكن مع بدء الشقاق الصيني الروسي بداية السبعينات بدأ التقارب الأمريكي مع الصين مرة أخرى. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة ظلت الصين محافظة على علاقات متوازنة مع أمريكا، لكن مع وصول بوش الإبن للسلطة بدأت العلاقات في التدهور بسبب الفارق الهائل في ميزان المدفوعات لصالح الصين، حيث زاد بوش من الحصار البحري العسكري على ممرات الصين الاقتصادية التي تربط حاضرات الصين الصناعية بالإسواق العالمية عبر تمركز ما يقرب من نصف الإسطول البحري الأمريكي هناك، وفي عام 2012 زاد التمركز العسكري للأساطيل الأمريكية حول بحر الصين الجنوبي ليصل إلى أكثر من ستين بالمائة من حجم القوي العسكرية الأمريكية، بعد إعلان أوباما للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأقصى، والتي تري في صعود الصين تهديدا مباشرا لأمريكا.
وفي سياق أخر كشف لقاء هيلاري كيلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية مع زعيمة المعارضة في ميانمار والمحسوبة على الغرب (أونغ سان سو تشي) في عام 2011، عن الرغبة الأمريكية في تطويق الصين من الجنوب الغربي ومنعها من الوصول لخليج البنغال، وهو ما تأكد في زيارة أوباما لماينمار في العام التالي ودعمه لزعيمة المعارضة.
لماذا ميانمار؟
تم اكتشاف حقل غاز ضخم عام 2004 بالقرب من سواحل أراكان، وحصلت الصين على امتياز التنقيب عام 2008، وفي 2009 تم التوقيع بين ميانمار والصين على تدشين خطين لنقل الغاز والنفط من ساحل أراكان إلى ولاية يونان بجنوب الصين، الأمر الذي رفضه السكان المسلمون نتيجة الآثار البيئة المترتبة على ذلك المشروع من تلويث مياه الأنهار وتدمير الممتلكات، حيث تمر أنابيب النفط والغاز بـ 23 مدينة مركزية، إضافة إلى 56 نهرا و76 جبلا في كل من ميانمار والصين. وتكررت الاحتجاجات في ولاية كاشين الشمالية عام 2011، لمنع الصين من إقامة مشروع خزان مايتسون لتخزين النفط، والتي اضطرت الحكومة لتأجيله تحت ضغوط الاحتجاجات الشعبية، وفي محاولة من الحكومة لإنقاذ مشاريع الأنابيب، قامت عام 2012 بإثارة النعرة القومية لدى الرهبان البوذيين تجاه أقلية الروهينجا المسلمة في ولاية أراكان بجنوب البلاد، بهدف طردهم من تلك المنطقة الاستراتيجية إلى حدود بنجلاديش بزعم أن الاستعمار الإنجليزي هو من استقدمهم من هناك، وذلك في محاولة حكومية لمنع احتجاجات السكان ضد مشروع أنابيب النفط والغاز، ونجحت حكومة ميانمار في افتتاح أنبوب الغاز عام 2014، فيما تأخر افتتاح أنبوب النفط إلى 2017، بسبب أعمال العنف في جنوب البلاد بين الرهبان البوذيين ومسلمي الروهينجا.
ويشير المحللون إلى أن عملية التطهير العرقي والديني موجهة من الحكومة ومدعومة من الصين، وليست ضد كل السكان المسلمين، حيث يعيش 16 أقلية مسلمة في ماينمار، إلا أن الروهينجا هي الأقلية الوحيدة تقريبا التي تتعرض للقتل والتهجير.
تركستان بوابة الصين الجديدة
كرد على تصعيد الحصار الأمريكا لمنطقة بحر الصين عام 2012، أطلقت الصين عام 2013 مشروع طريق الحرير بهدف إقامة سلسلة من الطرق البحرية والبرية لربط الصين بخليج البنغال وبحر العرب ووسط أسيا، عبر تعبيد شبكة من الطرق وخطوط سكك حديدية. ونجحت الصين في انشاء طرق وسكك حديدية من غرب الصين (تركستان الشرقية) إلى ميناء جوادر الباكستاني ببحر العرب والقريب من الخليج العربي، ويتضمن المشروع تمديد أنابيب غاز ونفط، لاستقبال كميات من الغاز والنفط القادمين من الخليج العربي مباشرة ومن ثم ضخهم إلى غرب الصين، في إطار محاولتها لتوفير ممرات أمنة لاستيراد الغاز والنفط وتجنب مرورها في المضايق التي تسيطر عليها أمريكا.
وفي نفس السياق افتتحت الصين عام 2009 خط لنقل الغاز التركماني إلى إقليم غرب الصين (تركستان الشرقية) في إطار تنويع الصين لمواردها النفطية، مما يضاعف الأهمية الجيوسياسية للإقليم الذي تسكنه عرقية الإيغور المسلمة، والتي لا تتوقف عن الثورة من حين لآخر لمحاولة نيل استقلالها من الصين مرة أخرى، لذلك تخشي الصين من تكرار دعم أمريكا والغرب لأي حركات ثورية في منطقة التركستان كما حدث قبل ذلك في التبت، وهو ما يترتب عليه إعاقة مشاريع الصين الرامية لخلق طرق برية بعيدة عن الهيمنة الأمريكية.
هل يفعلها أردوغان مرة أخرى؟
لا تتوقف مساعي أردوغان لرفع الظلم عن الأقليات المسلمة في شرق أسيا، وهو ما تكلل أخيرا بنجاح إتمام عملية السلام بين حكومة الفلبين ومسلمي جبهة تحرير مورو، وحصول المسلمين على حكم ذاتي، وتلعب الحكومة التركية كضامن لذلك الاتفاق، وهو ما كان يحلم به مسلمي الفلبين بعد اضطهاد دام خمسة قرون على يد المستعمر الأسباني والأمريكي، والذي استمر بعد استقلال الفلبين على يد الحكومات المتعاقبة، فهل تنجح مساعي أردوغان المتواصلة لدى الصين وحليفتها في وقف الانتهاكات ضد الإيغور والروهينجا، ومن ثم الوصول لاتفاق سلام مماثل تمهيدا لحكم ذاتي لتلك الشعوب. وهل ينجح تقارب رؤي الزعيمان المسلمان أردوغان ومهاتير محمد، والهادفة لدعم الأقليات والشعوب المسلمة، في إيجاد حل توافقي مع الصين يضمن لها استمرار مشاريعها ومصالحها مقابل وقف الانتهاكات ضد مسلمي الإيغور والروهينجا؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.