3 أشياء أحببتُها في الشعب التركي

عربي بوست
تم النشر: 2019/08/07 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/07 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
من إحدى شوارع اسطنبول / iStock

صدَقَ الداعية السعودي سلمان العودة، عندما قال: "تكوين العادات الطيبة في الناس أهم من وضع القوانين العادلة، فمع العادة يصبح الالتزام تلقائياً، وإلا فأي جدوى لقانون لا يُطبَّق"، وهذا ما لاحظته في تركيا منذ مكوثي فيها، وخاصة مدينة إسطنبول في 2014، مقارنة بسورية التي قضيت فيها كل سنوات عمري تقريباً، حيث إنه غير الخدمات الكبيرة التي تقدمها البلديات لأهالي البلد في تركيا، وغير النظافة والحضارة العمرانية الواضحة المعالم في أكثر الأماكن التي يزورها المرء في إسطنبول، إلّا أن أهم ثلاثة أشياء متعلقة بسلوك الناس فيها وممارساتهم الماثلة للعيان هي:

أولاً: ملاحظة طوابير الانتظار التلقائي في الهواء الطلق أمام الأتوبيسات أو السرافيس أو الميكروباصات، وذلك في حرارة الصيف وزمهرير الشتاء، وقد يأتي مَن يقول إن هذه من الأمور الاعتيادية في أوروبا، ولكني أركّز عليها لكوني في بلد مسلم ومتاخم لسوريا، سوريا التي قد يستهجن بعض مواطنيها مَن يرون لديه شيئاً من الالتزام الذاتي بالقيم المدنية والقوانين، وكمثال شخصي على ذلك، أذكر أنه كان لي صديق يدير مخبزاً آلياً وسط مدينة حلب في حي المنشية، وكنتُ عندما أريد بعض ربطات الخبز أشتري من الكوة المعتادة التي يقصدها عامة الناس، ولا أقصد الباب الخاص المفضي للمخبز إلا في الزيارات الخاصة له، ولكن أحد معارفي وبَّخني مرتين رآني فيهما أقف أمام الكوة بغرض شراء الخبز، ولا ألتفت إلى الباب الخلفي الذي يقصده عادة رجال الأمن وكل من يعوّل على الوساطة في تسيير أمور حياته، من أعظم الأمور نزولاً إلى مستوى شراء ربطة الخبز، وذلك باعتبار أن صديقي أبو عبدو كان يدير المخبز آنذاك، قبل أن تعصف به ألسنة المعارك ويصبح لاجئاً في أوروبا؛ ولأن كل المواقف السلبية بهذا الخصوص لا تزال تمر أمامي كشريط مصوَّر، فإنني كلما رأيتُ طوابير الأتراك حتى وهم في انتظار ركوب التاكسي الخصوصي، احترمتهم أكثر على هذه العادات والأعراف الحميدة، وأزداد احتقاراً للكثير من مشاهد بلدي وجوانب من الثقافة الاجتماعية المتخلفة فيه إلى حد التقهقر اليومي رغم تقدم الزمن.


والميزة الثانية: فمن محاسن العادات الاجتماعية التي عاينتها في تركيا خلال السنوات الماضية، والتي استقللت فيها مختلف أنواع وسائط النقل والمواصلات من الدولمش إلى المينوبيس إلى الأوتوبيس ومن ثم التروماي والمترو، وصولاً إلى عبّارات النقل البحري بين شقي إسطنبول الآسيوي والأوروبي، فضلاً عن الشوارع والساحات العامة، فلم أصادف شخصاً أو مجموعة أشخاص من الأتراك يضايقون امرأة أو يلاحقون فتاةً، أو يتبعون أثر أنثى من باب التحرش بها، علماً أن القوانين الواردة في الدستور السوري ليست أقل تقدماً من القوانين المعمول بها في تركيا، ولكني حيال هذه العادة السيئة بشكل مطلق، وبدلاً من التعويل على الرأي الشخصي فيها، سأستشهد بالدراما التلفزيونية باعتبارها انعكاساً مباشراً لحياة أي مجتمع كان، حيث من خلال بعض حلقات المسلسل المتصل المنفصل "بقعة ضوء"، وخاصة حلقة بعنوان "وحياة اللي خلقك" التي كانت من تأليف دلع ممدوح الرحبي، وتمثيل كل من الممثل أيمن رضا والممثلة كاريس بشار، فنعاين الفارق الجوهري عقب مقارنته، بما أنَّ الحلقة  تُظهر عبر تعدُّد اللقطات والمشاهد، أن التحرش بالنساء عادة اجتماعية صرفة لا علاقة لها بقوانين البلد، وليس لها علاقة بالهندام والملابس المثيرة أو المحتشمة كما يدَّعي بعضُ المتديين، وكذلك بعض المهووسين بالجنس الآخر، وذلك من خلال تصرفات المتحرش وإصراره على التحرش بالمرأة مهما كان نوع هندامها أو شكل ثوبها، وذلك من خلال تغيير الممثلة لملابسها في كل مشهد تمثيلي، حتى وصل الأمر بالممثلة -التي تنقل لنا صورة منتقاة ولكنها طبق الأصل عن الواقع- إلى التخلي عن نمط هندامي كامل لكي تتجنب التحرش، ولكن يبقى المتحرش كما هو ماضياً في سفالته وتطاوله، فتتنازل الأنثى عن البهرجة، وعن الأناقة، وعن كل رداءٍ يُظهر جمالها أو مفاتن جسدها من أجل التخلص من إزعاجات المتحرش، ولكنه يبقى على ما هو عليه، لا يمنعه من مشروعه الأبدي لا الثوب القصير ولا الطويل، لا الإكسسوار المكشوف ولا المغلق، ولا ثمة موديل معيّن من الزّي يثني المتطاول عن هدفه الوضيع.

 حيث تجرب الممثلة للتخلص من ملاحقاته ملابس محتشمة جداً، ولكن لا فائدة مع من كان نصب عينه الأنثى أياً كان الرداء الذي تتلحف به، حتى النقاب الكامل لم يمنع الذكر من مطاردتها والتحرش بها، وهي بكامل سوادها من الرأس إلى القدمين، والحلقة من كل بد تحاكي بحرفية عالية ما يجري في المجتمع السوري، مع العلم أن ظاهرة التحرش الجنسي موجودة بكثرة وبأشكال مثيرة للاشمئزاز في الشوارع والأماكن العامة بمصر والسعودية، علماً أن تلك المجتمعات تحكمها قوانين وضعية وسماوية، دنيوية موضوعة منذ أيام خضوع تلك المجتمعات للقوانين التي وضعها الفرنسيون والإنجليز، وسماوية باعتبار أنها بلاد إسلامية صرفة، ولكن مع كل ذلك لا قوانين الأرض، ولا شرائع السماء ردعت المتحرشين، أو منعت انتشار تلك الظاهرة النجسة بشكل فظيع، بينما في تركيا الذي منع وجود تلك النماذج القميئة في مجتمعها هو العادة والعرف الاجتماعي، وليس الدين أو القانون.


والميزة الثالثة: من بين العادات التي رفعت من شأن المجتمع التركي بنظري كمواطن أجنبي، هي أنني ومنذ أكثر من أربع سنوات أستخدم فيها وسائل النقل، وخاصة الدولمش المدني، أسمع أصوات بعضهم عندما يناولون السائق نقودهم وهم يقولون له كلمة "öğrenci" بمعنى طالب، إذ إنه ولمجرد قولهم إنهم طلبة يُخفِّض السائق من أجرة ركوبهم الحافلة، ولم يحدث أمامي أن شكَّك سائق ما بطالبٍ أو طالبة، ولم ألاحظ سائقاً طلب من راكب قال إنه طالب هويته ليتأكد منها، إلَّا في 9 /2 / 2018 وكنتُ على مقربة من السائق الذي ركبتُ حافلته من حي "بكر كوي" قاصداً "بغجيلار ميدان"، فصعد في الطريق شاب وناول السائق نقوداً مع تذكيره بأنه طالب، وعلى غير العادة طلب السائق الهوية التي تدل على أنه طالب بكل هدوء وتأن.

 ولكن بدا لي أن الطالب تفاجأ بالطلب، وراح يبحث في جيوب بنطلونه وسترته عن تلك الهوية الخاصة بالطلبة، ولكن يظهر بأنه لم يكن يحملها ذلك اليوم، وما كان عليه حينها إلا أن يعطي السائق ما تبقَّى من المبلغ المستحق عليه بصمت، وبلا أي اعتراض منه، أو إلحاحٍ فجّ من السائق، والحادث مرّ بأريحية بالغة من دون حدوث شوشرة أو شد وجذب، ولا ظهرت عليه أي آثار جانبيه بناءً على الموقف الحرج، أو خلق إشكالياتٍ تزعج خواطر الركاب الآخرين، وذلك لكوني جالساً كنتُ في المقعد الملاصق لكرسي السائق، وأكاد أجزم بأنه ما من أحد من ركاب الميكروباص قد انتبه إلى ما جرى بين الطالب وسائق العربة غيري.

 وهنا أيضاً حاولت إسقاط الحادث على بلدي، ورحت أتخيّل الاحتمالات التي من الممكن حدوثها بشكل فجٍّ لو كانت الواقعة في حافلة سورية مكتظة بالركاب، كما هو حال الحافلة التركية، التي أشعرتني بأنَّ العادات الاجتماعية المعمول بها بين الناس هاهنا، هي بحق أكثر أهمية من كل قوانين بلادنا الموضوعة فقط في الأدراج، أو المخزنة في الحافظات الإلكترونية، والتي رغم تذكيرنا بها كل حين فإننا لا نحظى مع كل سيمفونيتها الراقية، إلاَّ بسلوكيات تدلّ على الفوضى والهمجية في معظم الأماكن العامة على طول ربوع البلد وعرضه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ماجد عارف
كاتب صحفي سوري