وأذِن الله لأبي بالحج، بعد عقود من الشوق، عاش فيها يستجمع مشاعره المقدسة في مشاعر الأرض المقدسة، يزور عرفة في غير عرفة، ويمر بمِنى في غير مِنى، ويطوف بالكعبة معتمراً، ويلقى النبي مشتاقاً ومشتكياً، يسأله: "متى؟"، ويعود بالجواب محفوظاً في صدره: "حين يشاء الله يا عبدالباسط"، يسأله: "كيف؟"، يقول له: "كيفما يشاء الله يا عبدالباسط"، يتصبر بتكحيل عينيه بأرض الحبيب كلما سنحت له الفرصة، ويحمد ويشكر لأن غيره راح بصرُه وبلغ من العمر أرذله ولم يرَ بيت الله العتيق بعد.
جاء التصريح، قال لجدتي: "غنيلي يمَّا"، لكنّ جدتي التي عاشت عمرها كله رابطة الجأش، تعز دمعتها أمام كل أحد بما فيهم أولادها، فقدت مع الوقت قدرتها على التمثيل وكتم مكنونها، وباح قلبها الرقيق دوماً، المختبئ خلف ملامحها الصابرة، وصار مفضوحاً شفافاً تكاد تراه كلما نظرتَ إلى عينيها، تحمل أقرب علبةٍ إليها، تنقر عليها بأناملها في انتظام، تقدم بالعزفِ الغناء، تقول: "رايح فين يا جمل.. يابو الخُفّ زينة.. دا انا رايح أودي الحبيب.. يزور نبينا"، تذرف دموع جدتي -وهي التي لا تبكي-، تحاول المواصلة لكنها لا تستطيع، تعتذر عن الغناء، يحاول معها مجدداً ولا يفلح، فيستسلم لقلبها الرقيق.
وعدَته عمتي "عزة" قبل ثلاثين عاماً أن تقيم له فرحاً، وجاء وقت الوفاء، وهو أخوهم الكبير -المدلل-، فجمعت عماتي وبناتهن، وجلسن جميعاً، يجمعهن وأبي مكالمة "فيديو"، وأخذن يزغردن كأنهن يلعنَّ في كل زغرودة شيئاً، يلعنَّ في الأولى المسافات التي فرقت الأحباب، ويلعنَّ في الثانية الزمان الذي يحرم الأخوات من أخيهن منذ ست سنوات، والثالثة أن لعنة الله على الحزن ومن يستسلم للحزن،
والرابعة أن لعنة الله على الخدود إن توسدت الأيادي بدلاً من أن تمتلئ بالأغاني للذين نحبهم.
نتذكر الزمن الذى ولى وما تولى، مضى ولم يمضِ، خلا الناس وما تخلى، وإنما بقي شاهداً على الجدران، مشاهَداً في العيون، مشهوداً في الأذهان، نرى الحائط مدهوناً بالأبيض والسماوي، نكاد نرى الجد الكبير -رحمه الله- وهو يدهنه بنفسه، ويتركه ليملأه الأولاد قبل عودته بيومٍ واحد، برسمة الباخرة والجمل والطائرة، وفوقهم: "حج مبرور، وذنب مغفور"، المستقبلون يرسمون هنا، وهناك تجلس الحاجة وحولها جمع غفير، تغني من ساحة الحرم، وينهرها الضباط هناك، يهددونها ولا تهدأ، فيستسلمون للفطرة مبتسمين رغم أنوفهم، تغني: "يا بشير يا بشير يا رايح بلدنا.. قول لِـــولدي العزيز يبيّض عتَبنا.. ببوهية وزيتي نفرش البوابة.. ببوهية وزيتي.. واكتب حجتي.. على باب بيتي".
تحكي عن تعب الحج وراحته، وعن جمال "الحاجّ" ووداعته، عن رهبة الباخرة والحياة يومين في المياه، أو عن الطائرة وسقوط قلبها مع الإقلاع والهبوط، عن طعام الطائرة وحلاوة المضيفات، عن طابور الجوازات ومساعدة العساكر، عن الإنسان المجتمِع من كل بقاع الأرض، الأحمر والأبيض والأصفر والأسود، عن اللغة الواحدة التي تجمعهم على اختلاف ألسنتهم، لغة النظر إلى وجه الله كأنهم يرونه، ولغة النظر إلى الكعبة كأنهم يرون فيها الله، عن الفندق والخيمة والحملة وروحانيات عرفة، عن منى والمزدلفة والجمرات والشيطان ابن الـ..، عن التزاحم والتدافع والتراحم والتعاطف، عن شيخ الحرم، وصوت شيخ الحرم، عن زمزم، وعن شعرها الذي لم يعد يسقط منذ مسحته بماء زمزم، ووجهها الذي أضاء حين مسحته بزمزم، عن خطبة عرفة، والنحر يوم العيد، عن بلاد الله التي لم يرها من عباد الله إلا قليل، عن "الحاجّة" في بلاد العجائب.
تحكي عن الوداع، ستبكي وهي تحكي عن الوداع، ستذرف الدمع وهي لا تدري من أين جاء ولا كيف تصرفه، سيُخيَّل إليها أنه فصل من فصول الحكاية، ستحكيه مثل غيره، لكن نفسها تفاجئها وتقول لها: كلا يا حاجة، ستبكين فجأة لأنه الفصل الأخير، فصل النهاية، فصل الرحلة التي ستُطوى، وتظلين مشتاقة إلى تكرارها، أكثر مليون مرة من اشتياقك إلى القيام بها أول مرة.
ستغني ألف مرة وهي تهنئ غيرها ممن سيأذن الله لهن بالحج العام القادم: "نفسي أشوفك يا نبي.. وأقعد حَداك يامَا.. وأشوف حَمام الحِمى.. حول الحرم ياما.. تحت ضلّ الجبل.. وأريح شويّة.. تركبوا البواخر.. وأنا أمدح نبيّا.. يا زايرين النبي خدوني معاكم.. تركبوا البواخر وأنا.. أمدح ويّاكم".
ويأتي وقت الهدايا، وقت أمتار القماش إلى الأقربين وأصحاب المقامات من النساء والرجال، والكاميرا التي تضع فيها عينك الصغيرة فترى الكعبة، تضغط الزر فترى الحجاج، تضغط الزر فترى مسجد النبي، وهكذا، وذلك كان نصيبنا نحن الأطفال، وماء زمزم للمرضى من العائلة والجيران وأهل الشارع وأحبابهم وأحباب أحبابهم، والسبَح والطواقي لكل زائر أياً مَن كان، وزيت الشعر وإسدالات الصلاة للصبايا، والحجُّ كل الحج للجميع، كأن الشارع دولة أرسلت سفراءها، وما يخص السفير يشملهم.
بحثاً عن أصل الأفراح التي تعقد في موسم الحج في ديارنا، فإنهم يسمونه "تحنين"، وفي اللغة جاء من حَنّن، وحنين، وهو صوت المشتاق. وفي هذا خلاصة كل شيء، وتفسير كل استغراب، وجواب كل استفهام، أن علة الأفراح المعقودة هي الشوق وحده، ولا شيء غير الشوق -يا حاج- لا شيء غير الشوق.
وعليهِ فإن كان هناك ميقاتٌ مكاني يُحرم عنده الحجاج، فإنَّ في ديارنا ميقاتاً مكانيّاً يفرح عنده الحجاج، ويغني عنده الحجاج، ويصفق عنده الحجاج، ويبكي عنده الحجاج، ويحج عنده غير الحجاج!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.