دُعيتُ مرةً للتحدث مع مجموعة طيبة من الشباب المسلمين في منطقتنا في شمال ولاية ڤرجينيا، ضمن فعاليات المخيم الصيفي السنوي الذي يقيمه أحد المراكز الإسلامية.
طلبت الأخت الكريمة المسؤولة عن تنظيم اللقاء أن أتحدث للشباب عن "التاريخ الإسلامي" .
بدايةً طلبت من المسؤولة تقسيم الشباب إلى فئتين عمريّتين، فئة الفتيان وهم الذين في المرحلة الإعدادية وأول الثانوي، وفئة الشباب وهم الذين في نهاية الثانوي وأول الجامعة.
وهذا التقسيم برأيي ضروري، لأن هامش فارق السن في تلك المرحلة من الحياة فيه اختلافات كبيرة بيولوجياً وهرمونياً وفكرياً، مقارنة مع الهامش في السنوات الأكثر تقدماً من الحياة.
كان الفتيان والشباب من جذور مختلفة من المشرق والمغرب العربي.
ما لفت نظري خلال اللقاء أمران أساسيان، وهما أن معظم مجموعة الفتيان لديهم حالة من تشتت الانتباه، وهذا استطعت التغلب عليه بالصبر لعدة دقائق مع محاولات جذب الانتباه للموضوع المشترك، وهو سؤالي لهم: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟
فاجأني الجواب! معظمهم يريد أن يصبح لاعباً رياضياً محترفاً، وهو ما أصابني بداية بالإحباط، لكن مع زيادة من الصبر والتمحيص عن سبب ذلك وجدت أن مردّ ذلك يعود إلى أمرين خطيرين:
أولهما وجود قدوات حقيقية مسلمة في مجال الرياضة الاحترافية، وعلى رأسهم اليوم اللاعب المصري العالمي محمد صلاح، وثانيهما وهو ما أفصحوا عنه بعد إلحاحي، وهو أنهم يرون أنَّ النجومية والعالمية سبيل للتبرع لأعمال الخير والحسنى. وهذا يعكس إلى حدٍّ كبير إرهاف الحسّ عند شريحة الفتيان، والتي أحد تجلياتها محبة ودعم أعمال الخير المجتمعية.
وهذا ما ساعدني في توجيه دفة النقاش مع الفتيان حين الكلام عن "التاريخ الإسلامي"، والذي سأتعرض له في المقال هنا لاحقاً.
لكن لا بد قبل ذلك من الإشارة إلى ردِّ فئة الشباب على سؤال المستقبل، والذي بدا لي أنه جاء واقعياً وباعثاً للأمل، فكلهم أجابوا جواباً يوحي بفهمهم لواقعهم ورغباتهم. فمنهم مَن يريد أن يصبح طبيباً أو عالم فلك أو عالماً في الاجتماع أو في الفيزياء العصبية أو غير ذلك من المهن، وليس منهم من يريد أن يصبح لاعباً محترفاً.
وبالعودة لموضوع اللقاء وهو الكلام عن "التاريخ الإسلامي"
بدأت الكلام بأن سألتهم عن تعريف التاريخ. ووصلنا معاً لتعريف بسيط؛ أنَّ التاريخ هو كل أمر حدث في الماضي، بغضِّ النظر عن بُعد هذا الماضي أو قربه من الحاضر.
ثم سألتهم عن تعريف الإسلام، واتَّفقنا أن الإسلام هو دين الله الذي أرسله للناس.
ثم سألتُهم مَن يصنع التاريخ؟ فأجابوا بأن البشر هم من يصنع التاريخ.
في مقابل ذلك فإن الإسلام لا يصنعه البشر، لأنه منزل من عند الله.
بعد ذلك سألتهم: هل التاريخ معصوم أم عرضة للأخطاء؟ فأجابوا بأن التاريخ غير معصوم وعرضة للأخطاء. فسألتهم لماذا؟ فأجابوا لأن من يصنع التاريخ هم البشر، والبشر عرضة للأخطاء كونهم غير معصومين.
بعد ذلك سألتهم: هل دين الله الإسلام عرضة للأخطاء أم خالٍ منها؟
فأجابوا بأنه خالٍ منها.
عند ذلك سألتهم: هل التاريخ الإسلامي معصوم أو خالٍ من الأخطاء؟
هنا ظهر واضحاً وبشكل جليٍّ عدم الارتياح للسؤال، والإحراج من الإجابة عليه.
كرَّرت السؤال: هل التاريخ الإسلامي معصوم؟
أجاب بعضهم نعم، وأجاب آخرون لا.
لم أحاول الدخول معهم في تفاصيل كلتا الإجابتين، فليس الغرض من الحوار إثبات أو نقض صحة هذه أو تلك.
لكننني حوَّلت انتباههم إلى أمر آخر، فقلت كيف نفسر تعبير "التاريخ الإسلامي" الكلمة الأولى فيه تدل على أحداث غير معصومة، والثانية دلالتها عصمة دين الله وخلوه من الخطأ.
ظهر الانتباه والإثارة بشكل واضح على وجوههم. فحلُّ هذا الإشكال قد يحلُّ لديهم قناعة عميقة إشكالية يواجهونها كلما قرأوا عن "التاريخ الإسلامي"، فوجودوا فيه أخطاء بشرية، بينما هم يؤمنون بأن دين الله الإسلام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قلت لهم: إنَّ تعبير "تاريخ الإسلام" تعبير خاطئ، لتناقض مفهوم كلمتي التعبير أساساً.
لكن ما رأيكم لو استبدلنا بكلمة الإسلام كلمة المسلمين، فيصبح التعبير "تاريخ المسلمين"، ألا يحلُّ ذلك الإشكال؟
قالوا بلى. سألتهم لماذا؟ أجابوا لأن المسلمين غير معصومين. فيصبح التعبير "تاريخ المسلمين" متجانساً، يحتمل الرقي والهبوط حسب سلوك المسلمين.
هنا سألتهم وما هو مرجع هذا السلوك؟
انتبهوا لما أقصده وأجابوا الإسلام!
تابعتُ كلامي، إذاً الإسلام دين الله المعصوم هو المرجع، وبمقدار اقتراب المسلمين بأفعالهم التي تصنع التاريخ من قيم الإسلام العظيم أو ابتعادهم عنها نستطيع أن نحكم عليهم وعلى تاريخهم الذي صنعوه.
أومأوا بقبول ذلك، وظهر الارتياح عليهم.
انتقلت معهم بعد الكلام عن التاريخ إلى نقطة أخرى، وهي الكلام عن الجغرافيا.
سألتهم وأجبت أين يصنع الناس التاريخ؟ في جغرافيا محددة. ثم سألتهم هل هذه الجغرافيا أو الأرض هي أرض ودار الإسلام أم أرض ودار المسلمين؟ أصبح الجواب الآن سهلاً. فالأرض دار المسلمين. سألتهم: هذا المركز الإسلامي الذي نحن الآن مجتمعون فيه، هل هو مركز الإسلام أم مركز للمسلمين في شمال ولاية ڤرجينيا.
دون انتظار للجواب، سألتهم وكان بعضهم يلبس لباس قومه في الوطن الأم: هل اللباس الذي يلبسه المسلمون في أوطانهم لباس الإسلام، أم لباس المسلمين في ديار المسلمين تلك؟ أجابني أحدهم هو لباس المسلمين، إلا ما لبسه المسلمون الأوائل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
سألته: هل تعلم ماذا كان يلبس أبو جهل وأبو لهب؟
فهم قصدي من السؤال.
إذاً اللباس هو لباس القوم في تلك الرقعة مسلمين وغير مسلمين.
أجبته نعم. ليس هناك لباس إسلامي، بل لباس المسلمين.
وصلنا إلى قرب نهاية حصة النقاش، والتي ناقشت فيها نفس المفاهيم مع المجموعتين، وصلنا خلالها إلى أن المسلمين لهم تاريخهم وأرضهم ولباسهم وعاداتهم وتقاليدهم، ودينهم الإسلام بقدر ما يقتربون من تطبيق مُثله الخالدة يرتقون بين الأمم.
لكنني ولتثبيت ما ناقشناه مع مجموعة الفتيان أتيتهم بمثالين من عالم الرياضيين المحترفين.
سألتهم: مَن أهم رياضي في تاريخ أمريكا؟
أجابوا محمد علي، المعروف لدى العرب بمحمد علي كلاي.
سألتهم لماذا؟ أجابوا لأنه رفض التجنيد والذهاب للقتال في ڤيتنام، لأن ذلك يتعارض مع مبادئ دينه. ورغم أنه خسر لقبه بسبب ذلك، إلا أنه كسب حب الشعوب وأصبح محبوبها.
ثم سألتهم عن بطل آخر، وهو لاعب كرة السلة ونادي الروكيتز حكيم أولاجوان، النيجيري الأمريكي، الذي وصل مع ناديه للتصفيات النهائية عام 1993، وصادف وقتها أن جاءت التصفيات في شهر رمضان، وأعلن حكيم أنه سيصوم خلال التصفيات وضجَّ الإعلام بذلك. قبل صوم حكيم كان الشعب الأمريكي بمجمله لا يعلم ما هو رمضان.
لكن بعد أن صام حكيم وفاز فريقه في التصفيات ونال بطولة كرة السلة الأمريكية عامي 1993 و1994 أصبح صوم رمضان من المعلوم في أمريكا بالضرورة.
وختمت جلسة النقاش بالفكرة التالية:
كان يمكن لمحمد علي وحكيم أن يجدا ألف عذر كي لا يقوما بما قاما به. فيذهب محمد علي لڤيتنام ويقنع نفسه أنه مُكره، وأن المُكره لا حرج عليه، ويفطر حكيم ويقنع نفسه أن هناك رخصة لفطره، وسيصوم بعد انتهاء البطولة مباشرة، بل سيصوم ويدفع كفارة تفطير مسلمين آخرين فيستفيدون من فطره. لكن كلا البطلين رفض ذلك رغم كثرة المُعذرين. وواجها الحقيقة وهي حرمة قتل الأبرياء، وحرمة الإفطار في رمضان دون عذر شرعي صحيح. فعلم كلاهما أنهما المقصودان بقوله تعالى: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، أي أن الإنسان أكثر الناس معرفة بنفسه، ولو جاء بكل الأعذار التي تبيح له الخروج على المبادئ.
التزم البطلان بما آمنا به رغم الاحتمال الظاهر بالخسارة المادية لهذا الالتزام. فخسر محمد علي لقبه، لكنه أصبح ليس فقط بطل أمريكا، بل بطل الشعوب المستضعفة في الأرض، وصام حكيم ولم يفطر ولم يخسر، بل فاز بالبطولة، فأثبت أن صوم رمضان لا يعيق عن تحقيق النجاحات، وكان أن أصبح صومه معلماً لرمضان في أمريكا.
آن الأوان لتصحيحٍ هادئٍ غير متشنجٍ لمفاهيمنا. فكثير من هذه المفاهيم اكتست قداسة غير مستحقة، فحجبتنا بذلك عن مبادئ كونية خالدة، كإقامة العدل والإحسان ومحاربة البغي والمنكر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.