كانت الأجواء باردةً ورطبة في تلك الأمسية من شهر فبراير/شباط عام 2012، حين حطَّت طائرتي أنا وابني مالك في أضنة، شمالي تركيا. استغرقت رحلتنا من بيروت وقتاً طويلاً، وكان ما يزال أمامنا ساعتان حتى نبلُغ وجهتنا في أنطاكية، المدينة الساحرة بالقرب من الحدود مع سوريا، حيث كان من المفترض بنا أن نلتقي بأنتوني شديد، زوجي ووالد مالك.
وحتى يومنا هذا، أعمل في الشرق الأوسط بوصفي صحفيةً لقرابة العقد من الزمن. وكانت تلك السنوات من أسعد وأكثر السنوات المجزية في حياتي. فرغم أنَّ الربيع العربي الذي كنت أكتب عنه أنا وأنتوني لم يُحقِّق التغييرات التي كُنت أتوق إليها أنا وملايين العرب، لكن الكثيرين من بيننا لا يزالون يُؤمنون بأنَّه سيفعل.
وفي تلك الليلة في أنطاكية، فقدت كل الأمل. وأصبحت أرملة. وعلى الفور تقريباً، قررت أن أترك الصحافة.
قابلت أنتوني للمرة الأولى في سبتمبر/أيلول عام 2006، خلال مسيرةٍ نظَّمها "حزب الله" في الضواحي الجنوبية لبيروت، والتي كُنا حاضرين فيها بشكلٍ منفصلٍ بوصفنا مراسلين. وكُنت أُتابع تغطية أنتوني للشرق الأوسط بإعجابٍ شديد، بدأ منذ الغزو الذي قادته أمريكا في العراق عام 2003. ووُلِدَ أنتوني في الولايات المتحدة لأبوين لبنانيين. في حين نشأت أنا في لبنان، إبان الحرب الأهلية، وسط عائلةٍ واعيةٍ سياسياً، فقرَّرت أن أُصبح صُحفيةً لأنَّني أردت أن أكون جزءاً من الحوار الوطني.
وبحلول موعد المسيرة، كُنت قد شهدت دمار بلادي، وإعادة تأهيلها، وانهيارها مرة أخرى في حالةٍ من عدم الاستقرار وعدم اليقين. إذ انتهت الحرب الأهلية اللبنانية رسمياً عام 1990، لكن الأمة ظلَّت مُقسَّمةً بشدة، وهشةً للغاية. واندلعت الاضطرابات الجديدة حين اغتيل رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق، في فبراير/شباط عام 2005 بواسطة سيارةٍ مُفخَّخةٍ في بيروت. وفي يوم الحادثة، كُنت أعمل مراسلةً لصحيفةٍ لبنانيةٍ ناطقةٍ باللغة الإنجليزية تُدعى Daily Star، التي كانت تُغطي الأخبار البيئية في مُجمل محتواها، لكنّني هرعت بسرعةٍ إلى موقع الحادثة غريزياً. وكان المشهد مُروِّعاً، إذ ذكَّرني للغاية بالصور التي كُنت أُشاهدها على شاشة التلفاز في منزلي خلال سنوات الحرب العشر التي عايشتها.
وقسَّم موت الحريري، الذي حُمِّلت سوريا وحُلفاؤها في لبنان المسؤولية عنه، البلاد إلى مُعسكرين: أحدهما مدعومٌ من قِبَل سوريا وإيران، والآخر مدعومٌ من قِبَل الغرب وأنصار الحريري. وأسفر ذلك عن 17 شهراً من الجمود السياسي، وسلسلة من الاغتيالات السياسية.
ومع تطور علاقتي بأنتوني، تأرجحت لبنان على شفا حربٍ أهليةٍ أخرى. وسرعان ما بدأت تتلاشى أيّ آمالٍ في أن تتغلَّب البلاد على مشكلاتها. كُنت حينها مُراسلةً حرة لصحيفة New York Times الأمريكية، وبدأت أشعر أنّ عملي مُستقبلاً سيغرق في الصراع والاضطرابات.
وبقدر حُبِّي لوظيفتي، مرَّت العديد من اللحظات -بين عامي 2005 و2008ـ التي شعرت فيها برغبةٍ في أن أكون شخصاً آخر في مكانٍ آخر. وخلال تلك السنوات، واجهت العديد من حالات الوفاة. بدأ الصراع يُؤثِّر سلباً عليّ. وفي مايو/أيار عام 2008، كان نداء القدر قريباً مني للغاية.
وفي مشاهدٍ ذكَّرتني بقتال الشوارع إبان الحرب الأهلية، كان رجال "حزب الله" المُسلّحون بالمدافع الرشاشة يُقاتلون أنصار الحكومة في شوارع بيروت، وأخذ القناصة مواقعهم، وامتلأت الأحياء بالسيارات والحطام المُحترق. وخلَّفت أيام القتال الأربعة 29 قتيلاً على الأقل، و19 جريحاً.
وفي الـ10 من مايو/أيار، توجَّهت مع زميلي رائد رافع، الذي كان يعمل لصالح صحيفة The Los Angeles Times آنذاك، لتغطية جنازة شابٍ سُنِّي قُتِلَ على يد قناصٍ قبل يومين. واعتقد المُشيِّعون السُنَّة أنَّه قُتِلَ على يد شخصٍ من الطائفة الدينية المُنافسة لهم، الشيعة. لكن الجنازة تحوَّلت إلى العُنف سريعاً، حين اشتبك المُشيِّعون مع رجلٍ شيعي رفض إغلاق متجره الواقع على الطريق إلى المقابر. وحين هشَّم المُشيِّعون نوافذه بالحجارة والكراسي، استجاب بفتح النار عليهم.
نزلت إلى الأرض على الفور، وزحفت بحثاً عن غطاءٍ خلف حاوية قمامة. واختبأ رائد أيضاً. وحين هدأت الأمور، خرجت من مخبئي لأرى الرجلين اللذين كانا واقفين بجانبي قبل دقائق وهما مُستلقيان على الأرض وسط بركةٍ من الدماء. وكان رائد واقفاً فوق إحدى الجثث وفي يده كاميرا رقمية للطوارئ. لقد نجا كلانا، ومات الرجلين، علي المصري وموسى الزوقي. لا أستطيع محو ذلك اليوم من ذاكرتي، أو نسيان وفاتهما التي لا معنى لها.
وبنهاية شهر مايو/أيار عام 2008، فاض بي الكيل من بيروت. وأصبح الصراع خانقاً نفسياً بالنسبة لي، مثل الأبخرة السامة التي كانت تتطاير من الإطارات المُحترقة لتخنق رئتي. فقرَّرت أخذ قسطٍ من الراحة، والتسجيل في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. وحين حان وقت مُغادرتي مُتوجِّهةً إلى كلية الدراسات العليا، طلب مني أنتوني الزواج، فقلت نعم.
وبعد تخرُّجي في يونيو/حزيران عام 2009، انتقلت إلى بغداد للعمل مراسلةً لصالح Washington Post. كُنت مُتلهِّفةً لوظيفتي الجديدة، وللعمل مع أنتوني الذي كان يُعتبر -على نطاقٍ واسع- أنجح مراسلٍ أجنبي يُغطي الشرق الأوسط. وكُنت أشعر بالقلق حيال الأخبار التي سأكتُبها، والأخبار التي ستفوتني، وما إذا كان أيّ شخصٍ سيقرأ ما أكتُبه على الإطلاق. وكان أنتوني، زوجي، رئيس المكتب آنذاك. وكُنَّا مُتزوجين منذ عام، ولكن لم يسبق لنا العيش في نفس المدينة من قبل. وكان شريكاً رائعاً، في الزواج والعمل على حد سواء. إذ كُنَّا نُمارس العصف الذهني للخروج بالأفكار معاً، ونُخطِّط رحلات المراسلة سوياً، ونتعاون للخروج بأفضل الترجمات للاقتباسات من العربية إلى الإنكليزية. وفي الأمسيات الهادئة، كُنَّا نُشاهد البرامج التلفزيونية أثناء تناول مثلجات الفانيليا.
وكان من السهل أن ننسى أحياناً أنَّنا نعيش داخل بلدٍ آخر غارق في الاضطرابات.
وفي يناير/كانون الثاني، انفجرت ثلاث قنابل في غضون دقائق، داخل ثلاثة أحياءٍ مُنفصلة بالمدينة. واستهدفت تلك الانفجارات الفنادق التي اعتاد المراسلون ورجال الأعمال الأجانب التردُّد عليها. وكان الانفجار الثالث قريباً للغاية من منزلنا، لدرجة أنَّه هشَّم العديد من نوافذه.
وضرب الانفجار فندق الحمراء، الذي يقع على الجهة المُقابلة من مبنى صحيفة Washington Post ويُعَدُّ محل إقامة الكثير من أصدقائنا وزملائنا. وكُنت قد تركت الصحيفة أنا وأنتوني في ديسمبر/كانون الأول من أجل الانضمام إلى مكتب صحيفة New York Times في بغداد. وكُنت حُبلى في شهري السابع ذلك اليوم، ولم أرغب في التوجُّه إلى موقع الانفجار للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. إذ شعرت في تلك اللحظة بالتزامٍ تُجاه الأمومة أكبر من أيّ قصةٍ إخبارية.
وبحلول نهاية عام 2010، كُنت أعيش أنا وأنتوني ومولودنا مالك في بيروت، حيث عُيِّن أنتوني رئيساً لمكتب New York Times في بيروت، وكُنت أنا أعمل مراسلة. وكانت الأوضاع هُناك، وفي كافة أنحاء العالم العربي إجمالاً -باستثناء العراق-، مُستقرة.
ولكن في الـ17 من ديسمبر/كانون الأول، أضرم بائع فواكه شاب النار في نفسه داخل قريةٍ تُونسية، إثر شجارٍ مع الشرطة المحلية. وسرعان ما اندلعت ثورةٌ كبيرة، وامتدَّت الاحتجاجات بعدها إلى مصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا. وعملت في تغطية الكثير من تلك الأحداث، وحين كُنت أُغادر بيروت، كُنت أشعر بالقلق من أنَّني لن أعود لرؤية مالك.
وفي الرابع من فبراير/شباط عام 2011، سافرت بالسيارة إلى دمشق لتغطية احتجاج "يوم الغضب" لصالح صحيفة New York Times، وتوجَّهت إلى مبنى البرلمان، حيث كان من المقرر إقامة الاحتجاج. لكن أحداً لم يظهر هناك. وأخبرني ناشطٌ ومُعارضٌ سياسي سوري، في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، أنَّ "سوريا هي آخر بلدٍ يُمكن أن يتغيَّر فيه النظام" . ولكنَّني لم أرغب في تصديقه.
وبعد سبعة أيام، اتصل بي أنتوني من ميدان التحرير في القاهرة، حيث كان يُؤدِّي عمله لصالح New York Times، حتى أستمع معه إلى مشاعر الفرحة التي اندلعت بين المتظاهرين حين سقط نظام الرئيس حسني مُبارك. كُنت في بيروت حينها، وأراد أن أُشاركه تلك اللحظة الملحمية في تاريخ العالم العربي.
أشعر أحياناً وكأنَّ وفاة أنتوني حدثت بوصفها نتيجةً غير مقصودة للثورات العربية.
وفي فبراير/شباط عام 2012، تسلَّل إلى سوريا للمرة الثانية من أجل إجراء مُقابلةٍ مع المُعارضة المُسلَّحة والنشطاء المُعارضين لصالح New York Times. ورتَّب المُهرِّبون، الذي وافقوا على اصطحابه، للسير قليلاً قبل أن يمتطوا صهوات الخيول عبر الحدود الجبلية بين البلدين. وكان أنتوني مُصاباً بالربو والحساسية من الخيول، لكن منشقته كانت معه ولم يكُن بحاجةٍ إلى أكثر من ذلك.
آخر مرةٍ تحدَّثت إليه كانت في الـ14 من فبراير/شباط عام 2012. كان حينها في شمالي سوريا، واتّصل بي من هاتفه الفضائي -المُتصل بالأقمار الصناعية- ليتمنى لي عيد حبٍ سعيداَ. وقال إنَّه سيُغادر سوريا خلال يومٍ أو يومين، سيراً على الأقدام وعلى ظهور الخيول مرةً أخرى، وأضاف أنَّ الرحلة كانت أفضل الرحلات في مسيرته المهنية. فسافرت أنا ومالك إلى أنطاكية في ليلة الـ16 من فبراير/شباط للقائه.
وقبل منتصف الليل بوقتٍ قصير، استيقظت على رنين هاتفي المحمول. كانت المتصلة هي جيل أبرامسون، رئيسة تحرير New York Times آنذاك. فقالت جيل: "أُصيب أنتوني بنوبة ربوٍ قاتلة" . كرَّرت الجملة في رأسي، لكنّني استغرقت بعض الوقت لأُدرِكَ ما كانت تُحاول إخباري به.
تقوقعت على نفسي فوق أرضية الحمام، وبدأت أبكي. أردت أن أصرخ، لكن مالك كان نائماً، ولم أُرِد إخافته.
كتبت جوان ديديون، في كتابها "سنة التفكير السحري The Year of Magical Thinking" عن وفاة زوجها، أنَّ "الناس الذين فقدوا شخصاً، يبدون وكأنَّهم عُراة، لأنَّهم يعتقدون أنَّهم خفيون" . والخفاء هو شعورٌ عظيم حين يكون قلبك مُثقلاً بالحزن. فبعد موت أنتوني، كُنت أُفضِل الأماكن التي لا أعرف فيها أحداً ولا يعرفني أحد.
كان ذلك قبل سبع سنوات. وحتى اليوم، أشعر أحياناً بنفس الألم الذي شعرت به في تلك الليلة داخل تركيا. تركت الصحافة، وغادرت منزلي في بيروت، وانتقلت للعيش على بعد آلاف الأميال بعيداً عن كل شخصٍ عرفته وكل شيءٍ اعتدته. وأنقذتني الأمومة من اتِّخاذ القرارات الخاطئة، وأجبرتني على النهوض من سريري حين كُنت أفتقر إلى الطاقة، أو العزيمة، أو الرغبة اللازمة. وبمرور الوقت، تحوَّلتُ إلى شخصٍ لا أعرفه. إذ فقدت اتِّزاني والانضباط الذي كُنت أتمتع به في الماضي. إذ أنَّ كوني صُحفيةً، ووجودي داخل الشرق الأوسط، أصبحا بمثابة تذكيرٍ دائمٍ بخسارتي. وكُنت بحاجةٍ إلى مسافةٍ بعيداً عن الصحافة والشرق الأوسط، حتى أتمكَّن من الحُزن واستعادة حيويتي مُجدَّداً.
وأتذكَّر عادةً المحادثة الهاتفية التي أجريتها مع أنتوني من إدلب قبل وفاته. وسرد لي كافة الأسباب التي لن تنجح بسببها الثورة السورية. وفي أعقاب وفاته، اتضَّحت صحة آرائه حيال سوريا، وأنَّ الربيع العربي فَشِلَ في تحقيق أحلام العرب بالعيش داخل دُولٍ حرةٍ وديمقراطية. وبدلاً من ذلك، خلَّفهم الربيع العربي بخسائر فادحة ولا معنى لها، ومنها خسارتي الشخصية.
حين تقع الأحداث الكبيرة، نميل إلى التفكير فيها بعبارات جارفة، وبوصفها حركات تشمل جماهير الناس. وحين تمُرُّ تلك الأحداث، نتجاوزها نحن أيضاً. لكن وحدهم من فقدوا شخصاً عزيزاً؛ سيحملون ندوب تلك الأوقات لتُحدِّد مسار حياتهم المستقبلية.
– هذا الموضوع مُترجم عن صحيفة New York Times الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.