صحيحٌ أنَّ الوضع اللغوي الجزائري يتَّسم بالثراء، ولكن هذا المكسب مازال يشكل مصدراً للغموض الذي يتبعه باستمرار أسئلة وأبحاث لا تنتهي.
في الواقع، لا يزال المشهد اللغوي الجزائري يشهد تغييرات كبيرة، وهذا منذ نيل الجزائر للاستقلال، كما هو الحال في المنطقة المغاربية ككل، تم ربط مسألة اللغة دائماً بالقرارات السياسية والتاريخية والقومية أكثر من القرارات التي تصدر من خلفيات ودراسات اجتماعية- اقتصادية.
لا ينبغي أن ننسى أن نتيجة هذه السياسة أدَّت إلى تفاقم التوترات حول مكانة اللغات الثلاث في الجزائر (الأمازيغية، العربية، الفرنسية).
في الجزائر، تخضع مسألة السياسة اللغوية وفقاً لمزاج الشخص الذي يحمل حقيبة وزارة التربية الوطنية أو وزارة التعليم العالي.
يمثل تدريس اللغات الأجنبية مسألةً مهمةً للجزائر وللنظام التعليمي بشكل خاص، يعتمد نجاح هذا النهج إلى حدٍّ كبيرٍ على الاعتراف بحقيقة المجتمع المتعددة اللغات والثقافات. من الضروري حقاً الاعتراف بهوية الفرد الخاصة وقبولها، من أجل التمكن من اكتشاف "الآخر" والثقافة التعددية، وبالتالي تطوير قيم الاحترام والتسامح الضرورية لتطور هادئ في المجتمع.
ليس هذا هو الحال بعد الاستقلال، فقد طوَّرت الجزائر أيديولوجية عربية إسلاموية، التي ترى أنَّ التنوع اللغوي يشكل خطراً على الوحدة الوطنية، وأنه لا يمكن لغير اللغة العربية أن تكون ضامناً لهذه الوحدة الوطنية. إنَّ إدارة مسألة اللغات والثقافات في الجزائر بعد الاستقلال مباشرة خضع لمعيار تقوية الهوية الثقافية العربية الإسلامية، وتصفية آثار الاستعمار الفرنسي. هذا تسبَّب في شيوع فكرةٍ بين المجتمع الجزائري، والذي يؤمن بها إلى الآن، وهي أنَّه لم تعد اللغة وسيلة تواصل فقط، لقد أصبحت معياراً لإثبات الانتماء الأيديولوجي" .
لقد عزَّز ذلك "الشعور اللغوي" الزائف بالعروبة لدى الجزائريين، على حساب الشعور اللغوي "بالجزائرية"، الذي كان ينبغي تعزيزه بعد الاستقلال. وهكذا، فإنَّ الوضع اللغوي في الجزائر عُرض تحت راية لغة مشتركة (تُفهم على أنها اللغة العربية الفصحى)، والتي ستكون خاصة بالجزائريين، كما لو كانوا يتحدَّثون بنفس الطريقة تماماً باستخدام لغة متجانسة. هذا المفهوم المثالي والطوبوي لمراكز صنع القرار لا يمكن أن يقاوم الواقع على الأرض.
لقد أتى إلى الجزائر جيش من المعلمين العرب والمعلمين الزائفين، بعضهم لم يتعلم أبداً، لكنَّهم يتحدثون "العربية". تم تعيينهم في المدارس القليلة التي كانت موجودة آنذاك في البلاد. لقد جاء هؤلاء بآراء وقناعات سياسية مختلفة، إن لم تكن متناقضة، وأساليب تعليمية بدائية، ونقص صارخ في البيداغوجيا في بعض الحالات. تم كل شيء في بيئة مدرسية محدودة للغاية، من حيث الهياكل التعليمية، وخاصة في ظلِّ عدم وجود برنامج وطني لتعليم اللغة العربية والفرنسية كلغة ثانية في البلاد، ولغات أجنبية مثل الإنجليزية والإسبانية.
يمثل هذا -إذا جاز التعبير- أول خطأ في تخطيط السياسة اللغوية في الجزائر. استُخدمت فترة ما بعد الاستقلال، والسنوات 1960-1970 لتنفيذ ما يسمى بسياسات التعريب، وشهدت الخطابات ازدهاراً حول مكان الجزائر في ظل العروبة.
يعتقد هذا النظام أن الناس مثله، خبيرة في فقدان الذاكرة، يريد تكرار أخطاء الماضي، لكن هذه المرة الضحية ستكون اللغة الإنجليزية، ومن المفارقات، أنه يفعل أي شيء بطريقة غير مدروسة، وهو ما يكشف عن عدم أهليته وذكائه حتى في خططه لخداع الجزائريين.
إن استبدال الفرنسية باللغة الإنجليزية في التعليم العالي يتطلَّب أولاً زيادة حجم تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وكذلك على مستوى الجامعة. ووضع الوسائل اللازمة (مختبرات اللغة، ورحلات اللغة إلى أفضل الطلاب والمدرسين، إلخ…).
هذا يسمح بتدريب المعلمين ذوي الجودة، والشروع في التدريس التدريجي لمواد معينة، وأجزاء من المواد باللغة الإنجليزية، فلا يجب تدريسها كلغة أدب فقط (على الطلاب بداية من المستويات السفلى التعود على دراسة بعض مفاهيم الإعلام الآلي، الرياضيات والفيزياء باللغة الإنجليزية).
كل هذا عملية طويلة، ولكي تنجح، فإنها تستغرق وقتاً وأموالاً، (ويبدو أن قائد الأركان الفريق قايد صالح يرى أنه لا مشكلة مالية في الجزائر، في ظل وضع سياسي صعب، كما أخبرنا عندما قلنا له إن الحكومة يجب أن ترحل بمن فيها، فقال إن هذا مطلب لا يمكن تحقيقه وهو مطلب "متطرف" و "غير معقول"، لأن الجزائر تعيش وضعاً مالياً صعباً، ولكن ربما كانت حساباته خاطئة، وذلك بفضل اللغة الإنجليزية…).
وبالنسبة للوثائق الإدارية التي يستخرجها المواطن، ستطالها الإنجليزية أيضاً، لكن المشكلة هي أن هذه مستندات يعالجها مسؤولون لا يتقنون اللغة الإنجليزية بشكل عام، لذا أتركك تتخيل النتائج يا عزيزي المواطن!
اليوم، تريد حكومة فاقدة للشرعية، التي يدعم بقاءها قائد الأركان، دَفْعَ الجزائريين لوضع العربة أمام الحصان مع مسألة اللغة الإنجليزية، في الوقت الذي يريد الجزائريون التخلص من هذه الحكومة، لكن الأخيرة تتجاهل تماماً إرادة الشعب، إن نجاح التطور اللغوي يعتمد بشكل أساسي على توافق بين المواطن والدولة قبل كل شيء، أين هذا التوافق بين المواطن الجزائري وحكومة "بدوي"؟
مما لا شك فيه أن الجزائريين يرحبون بتوسيع دور اللغة الإنجليزية في البلاد، فهي لغة ينظر إليها ليس فقط على أنها لغة العلم والتكنولوجيا، والتي تمنح الأفضلية للجزائري عندما يبحث عن منصب عمل في بلاده، بل أيضاً لسهولة تعلّمها ووفرة الطرق المؤدية إلى ذلك دون أي جهد مضنٍ. لكن الحكومة لا يهمها كل هذا، لأن هدفها هو التظاهر بـ "إصلاح" التعليم العالي، وأيضاً لإرسال رسالة للجزائريين بأنَّه تم القضاء على النفوذ الفرنسي في البلاد، والهدف هو خداع السذج. المضحك في الأمر هو أنهم يريدون الالتفاف على الحراك بخطة ساذجة أيضاً، وعن طريق موظفين حكوميين شاركوا في أكبر الكوارث التي حلَّت بالجزائر طيلة حكم الرئيس السابق بوتفليقة، الذي كان يُنظر إليه أنه عميل فرنسا!.
الشغل الشاغل لهذا النظام، بإثارة كل هذا الجدل حول الإنجليزية في النهاية، هو إغواء حشود من الناس، أصحاب النوايا الحسنة تجاه البلاد (لتصفية النفوذ الفرنسي في البلاد)، لكن معضلتهم هي أنهم يريدون مكاسب ظرفية سهلة اللحظة، ويغفلون عن أكبر تحد يجب على الحراك السلمي الحضاري أن يرفعه، وهو (سيادة القانون وجزائر ديمقراطية)، فإنَّ هذا النظام يريد منع التواصل بين التفكير بعيد المدى والعمل السياسي، من أجل إثارة النقاش والتفكير العقيم، وجعل السياسة عمياء، دون أي وجهة وهدف واضح لها، ومحاولة خلط سلم الأولويات لدى الحراك، وأن التحدي الحقيقي هو بناء دولة القانون، التي ستفتح بعد ذلك النقاشات في مناخ حرٍّ في كل القضايا التي تهم الجزائريين، الذين سيتكلمون وسيُعبِّرون عن أفكارهم دون خوف، ثم يتم اتخاذ القرارات التي تعكس إرادة الشعب.
النظام لا يريد ذلك، فهو يلعب بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على مصالحه، حتى من خلال قيادة بلدنا إلى الهاوية، وتقسيم النسيج المجتمعي بالنقاشات الهوياتية والأيديولوجية… استحضار موضوع مكانة اللغة الإنجليزية في الجزائر، بينما يهتف الشعب برحيل الحكومة ودولة مدنية لاعسكرية، هي مزحة تافهة وثقيلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.