في أواخر العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين شهدت عدة دول عربية تغييرات جذرية على أعلى مستوى، أنظمة دكتاتورية قمعية تساقطت الواحد تلو الآخر، وفقاً لترتيب زمني عجيب، كما في لعبة الدومينو التي يكفي دفع قطعة واحدة لتسقط باقي القطع تباعاً، هذه القطعة المدفوعة شاء القدر أن تكون تونس الخضراء التي لم تكن في الحقيقة بذلك الوصف بل كانت صحراء قاحلة طقسها معاد لكل شيء فيه حياة فكرية، كان شعبها يعاني من نظام أرعن ظل جاثماً على الصدور كاتماً للأنفاس عبر سنوات طوال إلى أن هبت عاصفة هوجاء أواخر سنة 2010، فروا منها تاركين وراءهم أحمالاً كثيرة من البؤس والتهميش.
تلك العاصفة حملت أيضاً بين ثناياها عدداً كبيراً من المتطفلين على المجال السياسي، حمى السياسة أصابت كثراً منهم وأصبح كل من هب ودب يتجرأ على الخوض في طرق تسيير الشأن العام، بعد أن كانوا في الماضي القريب ممنوعين من المشاركة فيها، إذ كانوا زبداً لا ينفع الناس ولا يضرهم.
عدوى الثورات انتقلت شرقاً وغرباً، وحملت معها تغييرات سياسية واجتماعية كبيرة، أخرجت العمل السياسي المماحك من قوقعته المغلقة إلى مجال واسع النطاق، بعد أن كانت مقتصرة على بعض الأفراد من الأسر النافذة التي تستأثر بكل شيء سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وعلمي.. تغيرات انتقلت فيها الشعوب من حال إلى حال، من الحديث عن أحوال الكرة إلى النقاش المستفيض حول الأحزاب والبرامج وكل ما ينعكس عنه من ريبة وتوجس أحياناً وتفاؤل وطموح أحياناً أخرى، أدى ذلك التفاعل إلى تطورات مقلقة سببها أن تلك الموجة من المهتمين بالشأن السياسي، من المتمرسين ومن غير المتكونين، تسببوا في إحداث تجويف عميق داخل مجتمعاتهم وتقسيمات أثرت على الاستقرار السياسي والتماسك المجتمعي.
وهنا لسائل أن يسأل هل هذه الظاهرة الجديدة على مجتمعاتنا صحية أم لا؟ ولكي نستطيع أن نتوصل إلى إجابة تطفئ شغف السائل، يجب أن نحدد بدايةً الطريقة التي سنعالج بها هذا الموضوع وهي فهم السياسة من منطلقها بدوافعها وبطبيعة التشكلات التي تحدثها.
بشكل عام السياسة هي سلوك فني عملي يمارس لتحقيق مصالح فردية أو فئوية وهي أيضاً نشاط فطري جوهري سببه رغبة الإنسان في الأمر والاِئْتمَار في نفس الوقت، هذه الرغبة امتدت لتصبح مطلباً جماعياً غريزياً؛ إذاً هل نتركها على حالها غريزية فطرية منفتحةً على الجميع أم يجب تكييفها مع التطورات التي يشهدها المجتمع؟
الفيلسوف اليوناني أرسطو أكد أن منطلقها فطري عفوي ثم ينحو منحى التنظم، وبيّن أن الإنسان كائن اجتماعي وسياسي بطبعه، اجتماعي لأنه يميل إلى التعايش مع الآخرين لتحقيق رغباته وشهواته، وليستمر في تلك الوضعية فهو يُعمل جوهره السياسي وبالتالي إخضاع الآخرين.
الطبيعة البشرية الفطرية فيهم دعمت اندماجهم في تجمعات بشرية تتسم بالمصلحة المشتركة، لكن قد تحيد تلك السمة من نعمة الائتلاف إلى نقمة الانقسام والتشرذم وسببها الرئيسي هو حب السيطرة والاستفراد، فتتشكل بذلك أطياف قمعية تخضع الآخرين كرهاً، وينقسم بذلك المجتمع الإنساني إلى مجموعات متنافرة قد تأخذ شكل الحروب الأهلية أحياناً أو تجتمع أحياناً أخرى بالاتفاق وما يجمعها هو ذات المصالح.
إذاً يمكننا تشبيه النشاط السياسة الفطري ببقعة زيت تنتشر على رقعة مائية على شكل أقراص متفاوتة الحجم، تندمج فيها الصغريات مع الأكبر مساحةً، حسب عوامل القرب والمصالح. ويمكن أيضاً اعتبار النشاط السياسي تطوراً متواصلاً منطلقه الطبيعة البشرية الفردية ومنتهاه مجتمع منظم مترابط يعيش داخل مساحة جغرافية تسمى وطناً. تلك التكتلات -كما هو الحال في الداخل- تكوّن فيما بعد مجتمعاً دولياً يغلب عليه منطق الصديق والعدو وتلتقي فيه المصالح أو تتنافر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.