تحلق الأطفال كعادتهم حول الجد، يبدو العجوز اليوم غاضباً بل منزعجاً متشائماً منذ أن استيقظ وهو يتصفح الجرائد ويدخن السجائر. نظر إلى أحفاده وحمل الكتاب قائلاً: من هو ابن العربي؟
أجابه أحد الأبناء: بابا عزيزي مش هذا إللي بدلوه وردوه نهج صربيا
تنهد الجد وأردف قائلاً: ابن العربي هو أحد أشهر المتصوفين لقبه أتباعه وغيرهم من الصوفيين "بالشيخ الأكبر"، ولذا تُنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية. ولد في مرسية في الأندلس وهو صاحب فكر ومذهب ومنهج، من أهم أفكاره الإنسان الكامل ختم الولاية، الأعيان الثابتة، المراتب السبعة، التنزلات الستة. وله أهمية كبيرة في الحضارة العربية والإرث الثقافي الذي يكونها ويؤسسها.
إذا ظن العديد أن ابن العربي لا يمت لتونس بأي صلة فهذا تطرف فكري من نوع آخر أي نكران وهروب من الحقيقة والواقع، ذلك أن ابن العربي من العلماء والمفكرين أصحاب القول والقلم وكل إضافة فكرية للإنسان تمت له ولو بطريقة غير مباشرة بصلة أي تجمعه علاقة.
الثقافة العربية الإسلامية من فكر وعقل متقد وكلام فصيح وعلم طب وجبريات وفلسفة وهي بعيدة كل البعد عن العنف والجهل والتعصب إذ كانت خير مرجع للأوروبيين زمن النكسة التي شهدتها أوروبا قبل الثورة الفكرية "عصر الأنوار". وما يميز هذه الثقافة هو ثراؤها وشساعة ميادينها وعمق تحاليلها.
ولكن لمَ النفور منها وتجاهلها لتصبح مجرد مرحلة نمر بها مرور الكرام؟
عولمة فكرية متوحشة ربما عصفت بكل انتماءات وإرث، لنتجرد من أصلنا ونبحث عن جذورنا بين أوراق حضارة لا ننتمي لها ونوهم أنفسنا أن الزمان قد ولّى فلم ماض حافل؟ نعم لا يجب الوقوف في المنتصف على الأطلال. استحضار كل تلك الإنجازات دون العمل على بناء حاضر أفضل للأمة العربية التي تنزف اليوم دماء شبابها، أمة كبلت أفواهاً وألزمت مفكريها قعر السجون. بل يجب مواصلة ما قام به المصلحون والمفكرون وتحليل أعمالهم والنظر في النقائص ومحاولة البناء على ما أسسوه، وإذا كانت البنية التحتية مهترئة نعيد البناء بالساعد والفكر ونواصل نحن المضي قدماً.
لن أخلط الدين بالحضارة، ولن أقطع رؤوسكم لتدخلوا دين الإسلام، لكم دينكم ولي ديني، ولن أتحدث عن الفتوحات ولا عن الصحابة والأنبياء.
لا أعلم لمَ يخشى الناس هذه الكلمات الثلاث: الحضارة العربية الإسلامية. غريب حقاً أن يتجرد الناس من أصولهم لينسبوا لأنفسهم جذوراً لانتحرت لو عرفت.
إني أوقن أن العرب اتفقوا على أن لا يتفقوا، إن العرب اليوم لم يحركوا لهم ساكناً، إن كتب تفاسير الأحلام والرومانسية المزيفة وكيف تسيطر على زوجتك العصبية، تغرينا أكثر من كتب ابن خلدون والمتنبي وابن الجزار ومحمود درويش وغيرهم، إن العرب اليوم مغتربون في بلادهم، منفصمون، سكيزوفرانيا لا يمكن وصفها، الكلام بدون أفعال، شعارات فاشلة، خوف ورهبة وتقبيل أيادي الأسياد، إن العرب لم تقم لهم قائمة والحكام العرب هل يمكن لي أن لا أتحدث عنهم؟
ولكن الفرق بين العرب الذين أتحدث عنهم وعرب اليوم، إنني أسرد تاريخ أناس أعملت عقولها وضحت بحياتها في سبيل العلم والبحث، عرب كتبوا بدمائهم صفحات يشهد لها التاريخ، عرب يجعلونك تتساءل عن التغيير الجذري الذي أصاب حمضنا النووي، لعنة ربما؟
لن أذكر كيف تقاعسنا وأعجبنا بالقصور والجاه والقينات والخمرة وكيف كانت الحياة على إيقاع لما بدا يتثنى.
حين قامت رئيسة البلدية بتغيير اسم ذلك النهج الصغير بنهج صربيا، كم تكدرت سماء يومي حينها، وكم لعنت اليوم الذي وطأت قدماي هذا العالم الذي بابتسامة عريضة يرحب بعروض تافهة، نهج صربيا عوض ابن العربي، لأن صربيا رمز للحداثة والتطور ونحن في عمل دؤوب لنجعل من البلاد منافسة شرسة، آلمت رأسي تلك الصورة، رغم عدم معرفتي المتعمقة بمثل شخصية وأيقونة تاريخية إلا أنني شعرت بضعف حينها وغضب قويان، مكانة ابن العربي احتلتها صربيا وربما لاحقاً سويسرا أو اليونان.
ابن العربي، ابن الهيثم، ابن سينا، ابن الجزار وأبي العتاهية وغيرهم من المفكرين والشعراء والأدباء لا تذكر أسماؤهم دائماً، حتى نحن نجهلهم تماماً، ربما ساعة تاريخ تذكرنا ولكن يصيبنا الألزيمر فيما بعد، ربما ساعة شعر جاهلي تذكرنا بجمال لغتنا ولكن نظراً لنظامنا التعليمي ننفر منها جميعاً.
هذه ليست دعوة لحب اللغة العربية أو الحضارة العربية الإسلامية بل تذكير بجمال ما تحمله بين طياتها، من هندسة معمارية تسحر الأذهان وكلمات قوية شاعرية تهز النفوس وتاريخ حافل بالاكتشافات والإنجازات التي تذكرنا بتفاهتنا اليوم وصغر قيمتنا، بل عدمها.
أدعوكم يا أحفادي بأن تفتحوا الكتب إذا لم تستطع المدارس فعل ذلك، وأن تبحثوا كأنكم تنبشون عن الآثار بين طيات الكتب عن تاريخ زاهر وزهيد لا يمكن نكرانه، العولمة المتوحشة اليوم تريد القضاء على عقولكم الصغيرة وجعلها حقولاً لثقافتها: ثقافة الصورة والرقميات فقط، تذكروا أننا لا نرفض الانفتاح أو التلاقح الثقافي بل نرحب به ولكن إذا أردتم أن تبحثوا عن أسرار الكون فابحثوا في أعماقكم عن أصولكم وافترشوا الليالي وتساءلوا من نحن؟
أغلق الجد الكتاب وفتح المذياع كعادته، بحث مطولاً عن علبة سجائره ليقاطعه صوت حفيده قائلاً: "بابا عزيزي بابا عزيزي، توا علاش النهج سماوه صربيا مش فرنسا"
التفت العجوز ممسكاً قداحته وأجابه مبتسماً: "ما هو هذيكا كيما حكاية العزوزة إللي خرجوها من دارها وقالولها على مصلحتك ياخي قالت يطيب خاطرك، وكي عاودوا رجعوها ومخرجوهاش، أول مجموعة تعدات عطاتهم مفاتح الدار والذهيبات، ثقافة مرحبا بيك إنت أولا أيا أعفس عليا يا حمودة وليدي".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.