الكل يكتب في هذا اليوم بادئاً بـ "في مثل هذا اليوم كان وكنتُ وفقدتُ وهُجرتُ ودُمِرتُ و.. و..
ولأن التاريخ يكتبهُ المنتصرون جلهُ مشوّه، لذا دونتُ بعضاً من تاريخنا؛ وهبتْ الغوطة الشرقية نفسها للثورة السورية ثماني سنوات، مُلئتْ بالتضحيات والصمود.
عِشتُ في الغوطة الشرقية المهمشة عمَّن أراد تهميشها فقط. قضيت سبع سنوات في بكالوريا الحصار، ثم تأهلت إلى سنة أولى غربة.
أتوقع أن وطأة المعركة في الغوطة كانت أشد من المحرقة الهولوكوستية أو حتى جلجامش الأسطورية، كانت بين عدة دول وشعب واحد، أما عن سلاح الدول فهو معروف، وأما سلاح الشعب فكان حناجر تصدح، وأقلاماً تكتب، وصورة تبيّن الحقيقة.
ولأن المستقبل يسبقهُ الماضي، ولأن كان فعل ماض ناقص.. ناقصٌ من كل شيء حتى من الوطن، أصبح من البديهي حينما أتكلم عن الوطن أن أستخدم صيغة الماضي بين كان وكنت.
عندما أتكلم عن الوطن بصيغة الماضي أشعر بغصة في حنجرتي تؤلمني إلى أن تدفع دموعي إلى مقلتي وتطوفان طوفاناً نغوص في أعماقهِ بين طيات الماضي المهترئ من الأمان، إنه يذكرني بطوفان نوح (عليه السلام).
كانت تخونني الذاكرة دائماً إلا في الأسى، فهي مخلصة معي، فلم يغب عن بالي كل من استنشق غاز السارين ولم يستطع أن يزفر بعد عام ألفين وثلاثة عشر.
لم يدنُ النسيان مني بمجازر كفربطنا وسقبا وحمورية وكل مجازر الغوطة.
حتى وإن غابتْ آثار الحصار عن أجسادنا، فلم ولن تغب عن ذاكرتنا وأطفالنا الذين تضوروا جوعاً.
لن ننسى خبز الشعير وماء البئر والسكرين بديل السكر.
ولن نغفل عن كل مَن تنشق غاز الكلور ولم يطرحه من جسده.
وإن أذعنَ بعضٌ من أهل الغوطة عنوةً مرغمين، فوالله لن ينسوا شيئاً أبداً فإنما ستذكّرهم أبناؤهم وبيتوهم وبقايا كلمات الحرية على جدرانهم وأعضاؤهم المبتورة أيضاً.
من هنا كان يمرَّ.. مرَّ على عينين جاحظتين وحاجب مقطوب ووجه شاحب وبطن مجوف وساقين هزيلتين ونتوء العظام من تحت الجلد ومريض سرطان ومريض قلب، وعلى طفل بعمر الدقائق وشيخ بعمر الثمانين، وعلى ميت تحت التراب، وشجر من دون ماء، وعلى بيوت مدمرة وكل امتداد ذرات التراب شرق دمشق، وعلى أشخاص علمانية وأخرى إسلامية، على عدالة المآذن وأروقة الكنائس، وعلى وضح النهار وعتمة الليل.
على كل مَن تشبث بالوطن ولم يذعن ويتركه.
من هنا مر حصار الغوطة الشرقية.
قبل سنة في مثل هذه الأيام والدقائق والثواني، كنا نعيش حياة مختلفة عن الجميع من دون استثناء، الذاكرة هي التي ألحَّت عليّ وأجبرتني على التذكر.
كان كل شيء متضارباً، كانت الشمس تشرق لتحرقنا، والهواء يهب ليكسرنا، والأرض تدور لتزعجنا. والليل يأتي ليشرّدنا، كانت السماء للطائرات، والأرض للصواريخ، وما تحت الأرض لجثثنا، كان كل شيء يوحي لنا بأن الموت يقترب أكثر.
بعيداً عن التغطرس
ولأن العدد كان قليلاً والمقاعد كثيرة
تعلمت من حصارِ الغوطة ما لم تعلِّمه الجامعات الأوروبية، تعلمت أشياء لا يمكن شرحها لبروفسورات، تعلمت أشياء عاجز عن كتابتها البتة.
اضمحل الحصار وخرجت مضطهداً مرغماً مهجراً من الغوطة الشرقية. خرجت حاملاً أحلامي على عاتقي، ولسوء حظي لم تتسع أحلامي في الحافلات الخضراء المعدة لترحيلنا، اضطررت للتخلي عن بعضها.
كانت الأرض تبكي، والجدران مترنحة على بعضها تئن، وبقايا البيوت بُحَ صوتها، الركام والحجارة مندهشة من هول المنظر، الغبار يعمّ أرجاء الأزقة ويعتنق رموش أعيننا، كان كل شيء مريضاً.
كثيراً ما كنت متشبثاً ببيت الشعر هذا:
حيّ المنازل إذ لا نبتغي بدلاً … بالدار داراً ولا الجيران جيرانا
عذراً فلم تبقَ دار فقد ابتغينا بالدار غربة قاسية، وبالجيران غرباء لا يتكلمون لغتنا.
في مثل هذه الأيام تماماً أكون قد أتممت السنة الأولى في الغربة لأصبح "سنة أولى غربة" ، أريد أن أتخرج. وأرجع إلى وطني، أريد أن أستخدم صيغة المستقبل في بلدي.
سأعود إلى الوطن
سانتصر، سأحيا، سأبني، سأبتسم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.