بالنسبة لـ "بوش" في العراق، كان الحذاء مصدر عاره الدائم، كأنه التصق به إلى الأبد وصارت صورته مقترنةً معه، وبالنسبة للصحفي الذي رماه فهو مصدر فخره الدائم. بالنسبة للقادة السياسيين فهو مصدر رعبٍ؛ أن يجده أحدهم مصوَّباً نحوه وهو في طريقه إلى منصة الحديث. بالنسبة لطائرات استطلاع الأنظمة في الثورات، فهو رسالةٌ من المتظاهرين في الميدان حين يرفعون أحذيتهم إلى الأعلى بأن "كلامكم على الجزمة". بالنسبة للجماهير فهو "خناقة" كبيرة حين يرفع اللاعب الذي يسبّونه الحذاءَ في وجوههم. بالنسبة للصيادين فهو حظهم السيئ حين يجدونه في السنارة بدلاً من الأسماك. بالنسبة للأطفال في إفريقيا فهو حلمهم بعيد المنال. بالنسبة للإنسان الطبيعي فهو شيء يُعِين القدمين على متابعة السير.
بالنسبة لنا، في بيوتنا الدافئة، كان "الحذاء" أكبر من هذا كله. إن كان للحرب صوتٌ يعلنه قرع الطبول، فللسلام صوتٌ تعلنه طرقعة حذاء أبي على الأرض، نسمعه قادماً من بعيد بخطواته التي نحفظ إيقاعها، نشعر به يقترب أكثر فينفي عنا البعد ويقتل فينا القلق، إذ معناه أنَّ الأمان الذي كان غائباً عن البيت -ليجلب الشبع- قد حضر، وأن العَشاء سيكون -مهما قَلَّ- كثيراً، والجلسة مهما طالت قصيرة، والضحك رصيدٌ لا ينفد، والقمر كامل وإن كنا في أول الشهر أو آخره، وأمي مُذنبة مهما كانت بريئة من كل ذنب، والمسرح منصوب يصعد عليه أفراد البيت واحداً واحداً لينال نصيبه من لسان أبي اللاذع الساخر، و "اللمة" الحلوة يُرمَز إليها بحذاءين اثنين: "جزمة" أبي الذي يعلن حضوره فنتأدب، و "شبشب" أمي الذي يعلن أن أحدنا لم يتأدب بعد.
في الصغَر كان لعبتَنا المفضلة؛ لعبة الصغار والكبار، لأن الجميع يشارك في الأداء أو المشاهدة؛ فأصغر أفراد الأسرة سيحاول جاهداً أن يضع قدميه الدقيقتين في الحذاء الكبير، يثبّتهما فيه ثم يصفق فرحاً في حالة من "الهَبَل" غير المبرَّر، تأخذه الحماسة لينتقل إلى المرحلة التالية، فيتحرك هو ولا يتحرك الحذاء الثقيل معه، فيسقط على وجهه مدوياً كالإسعاف، يجري أقربُنا إليه ليلتقطه من الأرض فيواصل وجهه التشنُّج وينقطع نفَسه من شدة البكاء، تأخذه أمي إلى حضنها فيصرخ مجدداً، معلناً رغبته في النزول، تتركه وعيناه متورمتان والدموع لم تجف بعد، فيعود إلى وضع قدميه والتصفيق ونصفه ضاحك ونصفه باكٍ، وينظر إلينا في بلاهةٍ معهودةٍ مجدداً فنموت ضحكاً، لنكتشف أن سبب البكاء لم يكن سقوطه على وجهه، وإنما لأن حذاء أبي انخلع من قدمه. كان يعني الدفء، والاحتواء، والثقَل، والضحك.
قبل زمنٍ طويل عقدت العزم، قلت: حين يكبر ابنك يا أبتِ ويصير رجلاً صاحب بيت، سأجعل في بيتي ركناً عالياً أضع فيه حذاءك في صندوق زجاجي، ليس تكريماً له لأنه حذاء، وإنما تكريماً لي لأنه حذاؤك أنت، سأحتفظ به، ولو كان بيدي لربطته فوق رأسي؛ لأستظل به من حر الشمس وظلمة الليل وقسوة الأيام، لأنه يعرف طريق النور جيداً حين كنت تجلبه لنا من قبلِ أن تشرق الشمس إلى أن تغيب كل يوم.
في مصر نقول: "الناس مقامات، والجِزَم مقاسات"، أي الناس على مختلف مكاناتها وأماكنها تكون قيمتها، فبعضهم بالمقام وبعضهم بالمقاس، لكن حين عرفتُ أبي وعرفتُ المثال، عارضته وقررت ألا يكون "الناس مقامات"، بل "جزم الناس مقامات"، وهؤلاء الناس أبي، وصاحب المقام حذاؤه!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.