ماذا لو لم نقسم أعمارنا لمراحل؟ ماذا لو لم نحدد ماذا يجب أن نفعل في هذا العمر وماذا يجب ألا نفعل؟
بالفعل هناك دورة حياة الإنسان التي خلقها الله، وحددها العلماء بعدد السنوات، والتي تقسم إلى عدة مراحل هي: مرحلة تكوين الجنين وما قبل الولادة، الرضاعة، الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، المراهقة، الرشد، الشباب، الكهولة، الشيخوخة، أرذل العمر، خلقنا الله كي نمر بهذه المراحل، لكن.. لماذا تتدخل عادات وتقاليد مجتمع نعيش بداخله في ماذا يجب أن أفعل وماذا يجب ألا أفعل في كل مرحلة، على الرغم من أن جميع هذه الأفعال والتصرفات لا تتنافى مع الأديان السماوية ولا تغضب الرب ولا رسوله خاتم للأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فلماذا إذاً يتحكم فينا عُرف لا علاقة له بالدين، وتقاليد عقيمة لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ لماذا يتم الحكم علينا بالسوء فقط لأننا أردنا التغيير والسير عكس التيار وما يفعله الغالبية العظمى من البشر؟
الأمثلة كثيرة، والعقبات التي تواجهنا أكثر، ولكل مرحلة من مراحل الإنسان التي يمر بها مشاكلها الخاصة وقواعدها التي حددها المجتمع، وقوانينها التي رسمها العُرف، وإذا خالفناها نسمع الكثير من القيل والقال، وما يسمم أبداننا ويجعلنا نكره الحياة بهذه الأفكار وبهذا النظام.
فمثلًا، سوف أتطرق هنا لأربع مراحل من أنضج مراحل عمر الإنسان، هي: الرشد، الشباب، الكهولة، والشيخوخة، والتي تتراوح ما بين 25 و70 عاماً تقريباً.
ولنبدأ بمصطلح "طلع على المعاش"، أي بلغ الشخص 60 عاماً، وبمجرد ذكر هذا المصطلح، يأتي في أذهاننا أنه..
يعني نهاية العالم، يعني لا أهمية لوجودي، يعني أكملت رسالتي على أكمل وجه، يعني الكسل والجلوس في المنزل دون أي عمل، يعني الاكتئاب الذي يصيب البعض، يعني الوحدة، يعني ويعني الكثير في مجتمعاتنا العربية.
أعتقد أن ذلك انعكاس لواقع تعيشه مجتمعاتنا العربية أو الغالبية العظمى منه، حيث فكرة سن الستين و"حسن الختام"، في حين أن الحياة تبدأ بعد الستين فعلياً في الكثير من دول العالم المتقدم.
فمثلاً نجد السيدة التي تخطت من العمر سبعين عاماً تمارس الرياضة وتلعب الزومبا، وتسافر وتتسوق داخل المحلات.
وبالتأكيد صادفنا قراءة خبر يفيد بأن هذه العجوز استطاعت تسلق قمة جبل ما، وفازت بمارتثون ما، وقفزت من الطائرة محلِّقة في السماء دون خوف أو تردد أو تحججاً بعمرها، نجد من يقوم بأداء مناسك الحج وعلامات الكبر ظهرت على وجهه حيث التجاعيد التي رسمت خطوطها على جلده وأصر على أداء مناسك الحج بنفسه، وغيرها من الأفعال التي لم يستطِع الشباب فعلها أو لم تتح لهم الفرصة للتمتع بمثل هذه النشاطات والعبادات، وهم في عمر العنفوان.
والحقيقة أن ما تربينا عليه، حيث العادات والتقاليد التي أغلبها نابع من خوف خوض التجربة أو ممارسة شيء جديد، أو روح المغامرة الذي هو في الأساس غير موجود إلا عند أقلية من البشر حيث امتلاك الشجاعة الكافية لمواجهة المجتمع بعاداته وتقاليده وعرفه البعيد كل البعد عن تعاليم الدين الإسلامي، هو السبب في ذلك، وفي تقسيم أعمارنا لمراحل، وفي وضع قوانين وقواعد تحدد هذه المراحل حتى نتفاجأ بالموت يدق أبوابنا.
كما نجد مَن يرغب في تغيير مثل هذه الثقافات، يتعرض للقيل والقال، ولبعض المضايقات، حيث التصرفات السخيفة من بعض البشر، فيضطر المبادر بالتغيير، إما للرجوع عن فعل مثل هذه التصرفات، واتباع الأغلبية من البشر والرضوخ لسياسة القطيع دون تفكير أو إعمالاً للعقل، متحججاً بالظروف التي وُضع فيها، أو أن يستكمل ما بدأه رامياً بكلام الناس وبعادات وتقاليد المجتمع المريض عرض الحائط.
أما عن تلك المراحل التي هي ما بين 25 عاماً حتى الستين والتي من المفترض أن تكون أفضل وأنضج عمر الإنسان، نجد في الحقيقة أن معظم هؤلاء الأشخاص هم الأكثر ألماً ووجعاً، هم الكثيرون من الشباب الذين خرجوا بالفعل على المعاش ظاهرياً، فشاب شعر رؤوسهم، وانحنت ظهورهم، وجفت أعينهم من البكاء، إما قهراً أو ألماً أو ظلماً وربما قدراً وابتلاء من الله، فالعمر في الحقيقة ليس بالسن وإنما بالروح والتفاؤل والأمل.
فبالرغم من أن معظم هؤلاء الذين تخطوا عمر الستين، وخرجوا على المعاش فعلياً، وينتظرون نهاية المشوار، ويوهمون أنفسهم بأن رسالتهم هكذا في الحياة قد انتهت، ويبدأون في ترتيب حياتهم الجديدة وتنظيمها بشكل يدعو للاكتئاب بعيد عن التجديد، وبشكل يوحي بالملل والروتين بحجة أنه كبر وهذه هي الحياة التي يعيشها كل مَن تخطى الستين، وإن فعل عكس ذلك حيث الخروجات والسفر، واستغلال مكافأة المعاش في مشروع مثلاً يفيده بعد ذلك، يصبح منبوذاً من الوسط المحيط به، فيفعل ما يفعلون حتى نهاية حياته في هذه الدنيا… يوجد آلاف الشباب اسماً فقط، شباب عمراً فقط، صغار في السن فقط، لكن يعيشون حياة العواجيز وشعور المسنِّين.
نعم شباب في البطاقة، عمره لم يتجاوز الـ35 عاماً، ونراه يحيا حياة المسنين، حياة من تجاوز عمره السبعين، حياة الأمل والفرح فيها لا يأتي إلا قلَّما.
فالشباب ليس شباب القلب، لأن مرحلة الشباب هنا اختلفت، نحن في زمن ثورات الربيع العربي، في زمن القتل والتهجير وأعمال العنف، في زمن ضاع عمر الشباب بحثاً عن وظيفة محترمة تضمن لهم حياة كريمة، في زمن الشباب يمتون غرقاً بسبب الهجرة غير الشرعية، نحن في زمن الإرهاب المقنع.
فكم من شاب شابَ رأسه من كثرة الآلام والأحزان التي عاشها، من كثرة المشاكل التي يتعرض لها، من كافة الضغوطات التي تمارس عليه سواء من حوله، أو من ظلم وقع عليه، أو من قدر أو ابتلاء ميزه الله به.
يمكن أن يكون لثورات الربيع العربي عامل أساسي في ذلك الشعور، أو بالأدق لاستبداد الأنظمة الحاكمة في مجتمعاتنا العربية، ويمكن لضغوطات الحياة وغلاء الأسعار، ويمكن ضغط الأهل وإجبار أولادهم على تصرفات وأفعال لا يرغبون في فعلها، فيضطرون قهراً إلى فعلها إرضاءً لوالديهم واحتساب ذلك براً لهم، وهم في حقيقة الأمر يتقطعون من داخلهم حزناً وألماً على شبابهم الذي يضيع يوماً تلو الآخر.
لذلك في النهاية.. انتبهوا أيها الستينيون ولا تحزنوا لخروجكم على المعاش، فمن يرتضي لنفسه أن يأخذ راتباً شهرياً ثابتاً من خلال وظيفة، لا يحزن على نهاية خدمته بهذه الوظيفة، أو أن يأخذ خطوة جريئة ويخلق لنفسه حياة بعد الستين، وأن يحقق ما حُرم منه في شبابه، ولا مانع أن يتغير.. أعلم أنه صعب للغاية فمَن اعتاد على أن يتصرف وفقاً لعادات وتقاليد المجتمع الذي يعيش بداخله دون أي مخالفة أو تغيير لمجرد التغيير طوال ثلاثين عاماً… من الصعب أن يتغير.. بل على العكس شعوره بأنه مع الأغلبية من أقرانه يعطيه إحساساً بالرضا.
لكن الشعور بالرضا هذا ليس كافياً.. هناك مَن يصاب بالأمراض لشعوره بأنه أصبح لا قيمة له وأن لا عمل له.. لذلك انتبهوا.
في النهاية.. سنوات عمرنا ما هي إلا رقم على ورق، وعلى مَن يحب الحياة استغلالها بالشكل الصحيح من وجهة نظره والتي تضمن له حياة سعيدة قدر المستطاع حياة يكون هو راضياً عنها.. بغض النظر عن التغيير.. فمسألة التغيير والرضوخ لعادات وتقاليد وعرف مجتمعاتنا هي مسألة نسبية وشخصية، أي في نهاية الأمر وجهات نظر.
لكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن يكون هدفنا من هذه الدنيا هي الآخرة فهي الأهم، وعلينا أن نضع الفوز بالجنة غايةً وسبيلاً لأي تصرُّف نفعله في حياتنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.