كم مقالاً نحتاجُ لنثبت أن الماء ماء، وأن الهواء هواء، وأن السماء سماء، وأن البحر بحر؟ كم مقالاً نحتاج لنقول إن البرتقال برتقالي، وإن الزيتون زيتوني، وإن الخضرة خضراء، وإن الحلكة كحلية؟ كم مقالاً نحتاج لنعلن أن الأذن للسمع، والعين للبصر، والأنف للشم، واللسان للتذوق، والجلد للإحساس، والقلب للشعور، وأن الفم للضحك حتى الوقوع أرضاً؟! على مقالٍ يبدأ بمحاولات إثباتِ أن فلسطين هي فلسطين.
كم عمراً يحتاج المرءُ منا ليُثبت أنَّه على قيد الحياة؟ وكم شهادة وفاة وسماعة طبيبٍ وكفناً أبيض وشاهداً حجريّاً يحتاجُ ليثبت أنه مات؟ هل يحتاج شيئاً أكثر من إنسانيته ليُثبت أنه إنسان؟ أن يكون طبيعياً ليثبت أنه طبيعي؟ "لا" كبيرة جداً ستكون هي الجواب الموحَّد من الجميع، ممن يجتمعون على المصطبة، أو يجتمعون تحت قبة مجلس نواب، ممن يجتمعون في اليقظة أو في الحلم، أو حتى في"المنامة"، الجميعُ يعلم أن الثوابت ثوابت لأنها لا تحتاج إلى إثبات!
فلسطين.. الأرض الممتدة بطولها على نفسها، التي لا يقل تمسّكها بعَرضها عن تمسكها بعِرضها، الزيتون والبرتقال، الزعتر ورائحة الطابون، الأصيل والضحى، المتضادات جميعها إلا أن تكون أرضي وأرضك، فيها كل شيءٍ وعكسه إلا أنا وأنت، تجمع ألف عالَمٍ لكنها تضيق جداً، يستحيل أبداً، أن تجمع فوق أبراج حمامها علَمين، قد تُحلق فيها طائرات كثيرة، لكن لا يقبل هواؤها -وللهواء في فلسطين إرادة وحكم- أن ترفرف فيه إلا رايةٌ واحدة، قد تكثر فيها المطارات وهوية جنود الجوازات، تكثر فيها نوافذ البريد ويتعدد موظفو الرسائل والطرود، لكن إن أردت الطردَ الحقيقي والجواب الذي يحمل بداخله أصل الحكاية، فلا تأخذها إلا من مناقير حمامنا الزاجل.
سبعون عاماً ولم يدرك أرباب المعاهدات والمؤتمرات ولا أصحاب الفخامة والجلالة والسمو، أن المقاوم لا تعنيه خطوطُ الخرائط ولا تواريخ العقود ولا مفاتيح الحل، لم يتعلَّموا الدرسَ بعد، أنه لا يهتم إلا بالخطوط التي على الأرض، وبالتاريخ الذي يملكه في صدره، وبالمفتاح الذي يعلّقه في رقبته. لا يحدد مرمى الطلقةِ في رأس مَن، في رأس حامل الخريطة القديمة أو الجديدة، في رأس مزور التاريخ الآن أو أمس، في رأس مَن يقول حل النصف دولة أو حل الدولتين؛ ذلك لأن الطلقة تعرف طريقها جيداً، تحمل ثأر مطلقها وتجري.
ثم تعالوا نفكر دقيقةً بهدوء ومنطق، هل كان يحتاج ناجي العلي أكثر من قلمٍ رصاصٍ وممحاةٍ ليمحوكم ويرسم فلسطين؟ هل كان يحتاج غسان كنفاني أكثر من قلمٍ جافٍّ ليسقي أرضنا الكبيرة من دمائكم في سطوره؟ هل كان يحتاج الأمرُ أكثر من رصاصةٍ وقلمٍ لنرسُمَكم كلَّ ليلةٍ ثم نقتل بقاياكم؟ هل كنا في أي يومٍ نحتاج إلا وجودكم لننفيكم؟ الأمرُ لا يحتاجُ شيئاً صدقوني، لا يحتاج مؤتمراً موازياً ولا بياناً مندِّداً، كلُّ ما في الأمر كما ذكرتُ لكم سلَفاً، أنَّ المقاوم لا تعنيه إلا الخارطةُ التي يحفظها في صدره، والرصاصة التي يحملها في جيبه، ولا شيء أصدق من خبرة الرصاصة في رسم الخرائط الأصلية.
قبل أن أُنهي حديثي الذي يُشبه توزيع المياه في "حارة السقَّايين"، وتعريف الناس بما يعرفونه، أن أبدي إعجابي وشفقتي معاً، أنكم أحسنتم اختيار المدينة، وتعاونتم مع القدر حين يسخر من حيث لا تشعرون، اخترتم "المنامة" لأنكم تحلمون!.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.