15 يونيو/حزيران 1992، مسجد النور، نجريج، مصر
يتوافد المصلون لتهنئة صلاح حامد محروس غالي بمولوده الجديد الذي سمّاه أبوه كعادة كل المصريين اسماً طبيعياً عادياً تقليدياً كأغلب أقرانه وأبناء جيله على اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد. ما لم يعرفه وقتها صلاح حامد أن السنين ستمر ولن يصبح ابنه طبيعياً ولا عادياً على الإطلاق. قبل هذا التاريخ بثلاثين عاماً وفي الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وتحديداً في فيلا فيوريتور في العاصمة بالأرجنتين، كانت دالما سلفادرو فرانكو تضع ابنها الخامس وسمّته دون دييغو.
مثل صلاح حامد، لم تكن دالما تعلم أن السنين ستمر، وسيحمل وليدها هذا الذي جاء في ظروف عصيبة اسم الأرجنتين إلى ما وراء البحار، وسيرتبط اسمه بأغرب البطولات العالمية في التاريخ، هذا الوليد هو مارادونا.
قبيل بداية الحدث الرياضي الأعظم إفريقيا، قد يتحول اللاعب الذي بدأ طريقه من المقاولين العرب، وتم رفضه في اختبارات الزمالك إلى مارادونا بنسخة مصرية خالصة، نستعرض في هذا المقال كيف يكون هذا التحول.
الأرجنتين، كأس العالم 1978
دعونا نرجع ثلاثين سنة إلى الوراء وبالتحديد إلى بوينس آيرس في يونيو/حزيران عام 1978، فالشوارع البراقة تجذب الأبصار، الطرق مرصوفة والبنية التحتية على أعلى مستوى، المشاريع الإنشائية التي تدخل الموسوعات القياسية، الأضواء المبهرة تضيء المدينة، حفل القرعة يدهش العالم، استادات وملاعب لا يوجد بها أخطاء، الجميع في حالة انتشاء يبتسمون للرفاهية، ويلعنون إخوان الأرجنتين الذي يروّجون الشائعات التي تتحدث سراً عن الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، وعن القهر والظلم والاستبداد السياسي، فكل ما ظهر في الدولة اللاتينية في هذا الصيف كان فخماً وعلى أعلى طراز.
بالطبع، لم يكن شيء من هذا حقيقي، فقط: الديكتاتورية وحكم العسكر وسلطة الحديد والنار كانت هي الحقيقة الوحيدة في هذا المشهد وكانت هي الشيء الذي لا يصلح للتصدير الخارجي، ويجب ستره ومواربته عن العالم، فتم تجميلها بكرة القدم! الشيء الأكثر سادية في هذا المشهد أن كل هذا قد جرى على جثث الأرجنتينيين حيث غطت أضواء الاستادات على جرائم النظام الذي كان يقتل ويخفي ويعتقل الآلاف في الحواري والطرق البعيدة عن الصورة الرائعة التي تم تصديرها للعالم.
كانت الأرجنتين تعيش لتوّها آثار انقلاب عسكري قياده عبدالفتاح خورخي فيديلا على الرئيسة إيزابيل مرسي بيرون عام 1976، وكعادة كل الأنظمة العسكرية، سعى فيديلا بكل ما يملك لتوطيد نظامه، والبطش بكل منافسيه، وتفريغ الساحة من كل الأصوات المعارضة أو حتى تلك المعتدلة. يذكر الحاكم العسكري لمدينة بوينس آيرس في اعترافاته في تاريخ لاحق أنهم كانوا يعتقلون كل المعارضين ثم قرروا أن يبطشوا بكل المتعاطفين مع تيارات المعارضة، ثم لم يكتفوا بذلك فنكلوا بكل المترددين الذين لا يعلنون تأييدهم للعسكر بكل ما وسعهم وما لم يسعهم من قوة!
فشل المؤرخون في حصر العدد المؤكد لضحايا نظام فيديلا من القتلى والغائبين والمهجرين، ولكن التقديرات تشير إلى ما لا يقل عن 30 ألف مواطن. وبينما بلغ الاضطهاد ذروته، والظلم مراتبه القصوى، منحت الأرجنتين حق استضافة المونديال في العام الثالث من الانقلاب كفرصة للنظام لتجميل هذه الصورة العبثية، وإخفاء بعض من عفنه وقذارته وفساده وإجرامه الذي يزكم الأنوف.
كانت الأرجنتين تحت حكم فيديلا تعاني فشلاً ذريعاً على كل الأصعدة، حيث تضاعف الدين الخارجي أربع مرات، وتم تعويم العملة وتناقصت قيمتها إلى العشر، واستنفدت الدولة خزينتها في مشاريع لا تغني ولا تسمن من جوع، وبينما كان الشعب الأرجنتيني يئن تحت وطأة الفقر، كان نظام فيديلا ينفق المليارات للاستعداد للبطولة المشؤومة.
ما زاد المشهد عبثيةً وقبحاً ليس السياق التاريخي فقط للمونديال، ولكن ما كشفه التاريخ بعد ذلك عن التلاعب الذي حدث لتمنح الأرجنتين هذا المونديال لقباً وتنظيماً. كان نظام البطولة يقضي بأن يقام دور الـ8 من مجموعتين يتأهل المتصدر فيهما للمباراة النهائية، فازت الأرجنتين على فرنسا بضربة جزاء مشكوك في صحتها، وفي الدور الثاني: احتاجت للفوز في الجولة الأخيرة على البيرو بنتيجة كبيرة جداً للصعود إلى النهائي، وهو ما تحقق بفوز الأرجنتين بسداسية نظيفة. كشف التاريخ بعد ذلك أن بيرو باعت هذه المباراة مقابل شحنة من القمح!
بطل هذه البطولة وهدافها هو لاعب فالنسيا الإسباني التاريخي: ماريو كمبس، وتذكروا هذا الاسم لأننا سنترك الأرجنتين الآن ونسافر إلى مكان وزمان آخرين، ولنا عودة..
اليابان، كأس العالم للشباب 1979
في العام التالي لفوز الأرجنتين بمونديال الكبير، ينجح مارداونا ورفاقه في افتكاك لقب كأس العالم للشباب عام 1979 في البطولة التي كان هدافها رجلاً يعرفه المصريون عن قرب وهو مدرب بيراميدز السابق رامون دياز. البطولة التي لم تكن تحظى باهتمام وغابت عنها أهم المنتخبات العالمية وللمفارقة كانت أغلب المنتخبات المشاركة من الدول الشيوعية أو التي ترزح تحت حكم عسكري غاشم كالأرجنتين تماماً مثل: "وصيف البطولة الاتحاد السوفييتي، يوغسلافيا، اندونيسيا سوهارتو، إسبانيا فرانكو، وغيرهم..". هذه البطولة استخدمها نظام فيديلا وبكل خسّة ووضاعة في التسويق لنفسه، واكتساب أمجاد وإنجازات وهمية لكيانه المغتصب، وتنويم أفراد شعبه وتخدير مشاعرهم عبر الأفيون الذي ينجح دائما وهو: كرة القدم.
كان مارادونا ومن قبله كيمبس هما رأسا الحربة في هذه العملية الممنهجة التي استخدمها النظام لغسل أياديه التي تلطخت بدماء شعوبه، فظهر مارادونا مع أعضاء منتخبه بالزيّ العسكري يمجدون فيديلا ويمدحون الجيش الذي أرسلهم لليابان لرفع اسم الأرجنتين عالياً، وجلب اللقب، وتحيا الأرجنتين.
لم يعلق مارادونا أو كيمبس على الأحداث التي تجري في بلادهم، ونأيَا بأنفسهما عن إبداء رأيهما أو التعاطف مع قضايا الجماهير التي رفعتهما على الأكتاف، واكتفيا بالسلبية المطبقة بل والجهر بتأييد فيديلا والظهور معه في شاشات الإعلام والتبرع لصناديق "تحيا الأرجنتين" التي تدعم النظام المجرم.
كان مارادونا هو الوجه الجميل للنظام، وهو القشرة الحلوة التي كان النظام يُخفي بها ما في الجوهر من فساد وبطالة ومحسوبية وطغيان وفقر وإجرام واعتقالات بطول البلاد وعرضها.
مصر، كأس الأمم الإفريقية 2019
نعود إلى مصر وتحديداً يناير/كانون الثاني 2019، حين كان المصريون لا يضعون باختلاف طوائفهم وقربهم من صناعة الرياضة أي احتمالية لأن تقام المنافسات الإفريقية في بلادهم، إذ كانت المؤشرات تنحصر بين الكاميرون الدولة المستضيفة أو المغرب الدولة التي كان لها حق استضافة إحدى النسخ السابقة وسحبت منها في اللحظة الأخيرة لصالح جنوب إفريقيا.
وكعادة الماما أفريكا صاحبة الغرائب والعجائب، تم سحب حق التنظيم من الكاميرون، وانسحبت المغرب من سباق التنظيم، لتدخل مصر في اللحظة الأخيرة في خطوة أثارت سخرية المصريين أكثر من استغرابهم وخاصة عندما كانت المنافسة مع جنوب إفريقيا صاحبة الباع الطويل في تنظيم المحافل الرياضية، والدولة التي تمتع باستقرار سياسي واقتصادي، ومستوى نمو وضعها بين مجموعة العشرين، ولكن حدثت المعجزة! وفازت مصر وباكتساح بالاستضافة!
غطت الفرحة التي صاحبت إعلان الخبر عن التفتيش خلف ملابسات هذا التحول المفاجئ في مسار تنظيم البطولة، وعن التساؤلات المشروعة التي قد تطرح بخصوص اللعبة التي مارسها النظام ليفوز بتنظيم هذا الحدث وفي هذا الوقت بالتحديد الذي يشابه حد التطابق الوقت الذي فازت به الأرجنتين بحق تنظيم كأس العالم 1978.
على بُعد كيلومترات من الاستاد الذي شهد احتفالات الملايين بهدفي كيمبس في هولندا في نهائي المونديال، كان يقبع معسكر ACME البشع الذي غطت أصوات الاحتفالات على صرخات الآلاف الذي كانوا يسامون أشد أنواع العذاب، وعلى أنات النساء التي كُن يُغتصبن ويجبرن على الحمل ثم يقتلن وترمى جثثهن في الطرقات. وعلى بعد كيلومترات من استاد القاهرة الدولي، يجثم سجن العقرب الذي شهد اغتيال الرئيس الشهيد محمد مرسي بعد ست سنوات من التعذيب والقتل البطيء، ويضم في زنازينه آلاف الأحرار والمظلومين ومساجين الرأي.
فهل تكون كأس الأمم فرصة ليغسل نظام السيسي بطشه وإجرامه؟ وهل يكون صلاح الذي لم ير المصريون منه الكثير من المواقف الإيجابية في القضايا التي تهمهم هو الأيقونة التي ينظفون بها إجرامهم ويتكئوا عليها لمزيد من البطش والتنكيل بالفقراء والمستضعفين؟ وفي الوقت الذي امتنع فيه لاعبون أمثال يوهان كرويف أفضل لاعب في التاريخ وقتها عن المشاركة في هذه المسرحية التي استخدمها نظام فيديلا في كأس العالم 1978، لم يقدر مارادونا أن يسير على خطى أعظم لاعب حمل رقم 14 على مر العصور.
فهل تلد لنا كأس الأمم مارادونا مصري جديد اسمه محمد صلاح؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.