المكان؟ زنزانةٌ مقرورةٌ صخريةُ الجدرانِ. الزمان؟ الثانية بعد منتصف الليل. الحدَث؟ أبثُّ شكواي يا ولَدي. مَتن الرسالة؟ تحية طيبة وبعد، أنا متعَب؛ لا أقوى على الحركة فأعجز أن أناول نفسي شربة ماء أتمناها، لا أقوى على النداء فأعجز أن ألفت نظر الضباط الموكلين بمراقبتي كأنهم لم يكفهم مراقبتي 40 عاماً قبل اليوم، لا أقوى على الحديث فالسعالُ له في الحلقِ سلطانُه؛ إذ لا يَسمح بخروج ولو نصفِ كلمةٍ إذا حضر. الأسباب؟ أنني إنسانٌ كان في مقدمة بشرٍ أحسوا أنهم لأول مرةٍ أنهم بشرٌ، لهم حق الاختيار. النتيجة؟ المكان.
المكان؟ قفصٌ أدخله في ابتسامةٍ ممزوجةٍ بمرارةٍ؛ الابتسامة أنني إنسان، والمرارة أنه قد اختلطَ عليهم فحبسوا رجلاً في جبلاية قرود، أنا هنا لأن الأمر يخصني، لأنها محاكمتي وبالتالي لأتكلم، لكنهم يقولون لي تكلم ما شئتَ فالزجاجُ عازلٌ للصوت. القفص الزجاجي وأنا بداخله يذكرني بـ "جنينة الأسماك"، لكن هذه "جنينية بني آدمين". الزمان؟ الثانية بعد الظهر. الحدث؟ لا أعلم، هي المرة الأولى التي أُساقُ فيها لقفصي وأنا أشعر بأن الحدث أكبر من مجرد محاكمة، أشعرُ بأن الحدث اليوم جلل، وأشعر برغبةٍ عارمةٍ في الكلام ورغبةٍ زاهدةٍ في السكوت. الأسباب؟ كما أخبرتُك؛ أشعر بأنني في مرتبةٍ بين محكمتين، وفي جلسةٍ بين قاضيْين، وفي ساعةٍ بين عالَمين، وفي عفوٍ بين حُكمَين، وفي لحظةٍ بين عُمرين، وفي رحمةٍ بين يدين؛ أراهما ولا أستطيع إمساكهما، نورٌ من الأعلى يجعلني لا أرى الظلام الذي في مستوى نظري، وجوابٌ واحدٌ بين سؤالين: ماذا تقول يا محمد؟ بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ، أهلي وإن ضَنُّوا عليَّ كرامُ. لم أسمعه بوضوح، ربما كان يقول: "أنت هتخطب؟!" لم يعجبه الجوابُ فسقطتُّ أرضاً، لكن القاضي الآخر أرضاه الجواب فرفعَني إليه.
مَن هذا الذي على يُسراي؟ أحمد؟! والله وكبرت يا ولد! ست سنواتٍ لم ترَ أباك يا رجل! ست سنواتٍ لم أرك ولو نصف رؤيةٍ مشوشة يا رجل! ست سنواتٍ لم نلتقِ يا عيني! ست سنواتٍ تمنيتُ في كل ساعةٍ منها أن تجلب لي كوبَ مياهٍ عجزت عن صبه لنفسي، سأقول لك: وما يمنعني أن أقوم أنا وآتي به؟ أتظنني عجزت؟ أنا شابٌّ أكثر منك! فتضحك وتضحك أمك، تقول: العُمر بالحروف لا بالأرقام يا أحمد. كبرتَ يا ولد! شعرك الأسود الفاحم غَزَتْهُ شعراتٌ بيضاء، وجهك الأبيض الحالم غزته خطوطٌ سوداء، قلبك الأحمر القاني بهُت لونه، وعيناك صارتا منتبهتين أكثر، متأرقتين أكثر، ساهرتين أكثر! كبرت يا أحمد!
هل أنتِ أنتِ يا شيماء؟ طفلتي التي لم أرها مهما مر الزمانُ إلا طفلة تتعلق بيدي كل غدوةٍ أو روحة، تسألني بإلحاحٍ أن أصطحبها معي، تأخذك أمك من يدي فتقولين إنكِ تخشين أن تتركيني وحدي وتقولين إنك تخشين أن أتركك وحدك، فأصحبك. الآن أعتذر يا صغيرتي! هذا المشوار اليوم يخصّني أنا، وصاحب الدعوة اشترط عليَّ أن آتيه منفرداً، لكن اطمئني فصاحب الدار كريم، صاحب الدارين كريم!
وأنتِ يا مسكينة سامحيني! سبعٌ عجاف لم أركِ فيهن إلا رابطة الجأش، تربطين فوق قلبك حجَراً لأن القلب الطريَّ للإنسان يموتُ قبل أن يتحمل ما تحملتِ، انظري إليَّ هذه المرة ولو لحظةً واحدة، أعلم أنك تخافين مِن ثبات صورتي هذه في خيالِك إلى الأبد، لكنني الآن أريدُ أنا أن تنظري فأحمل ملامحك معي إلى الأبد، يا سيدة النساء الصابرات، يا سيدة نساء الصابرين.
في الحقيقةِ تتحقق النتائج أو لا تتحق، تكون أو لا تكون، أما إن تموت النتيجة؟ فهذا أمرٌ غير طبيعي. انتهى الغُسل، وبدأت الجنازةُ في كل بقعةٍ في الأرض، أراهم بالأبيض مصطفين جماعاتٍ في السجون، وأراهم بالأزرق مصطفين جماعاتٍ في المحاكم، وأراهم بالأحمر مصطفين فرادى في عنابر الإعدام، وأراهم بوجوههم القمحية مصطفين جماعاتٍ تحت المتوسط، وأراهم بوجوههم البيضاء مصطفين جماعاتٍ فوق المتوسط، وأسمعهم جميعاً على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأشكالهم، يقولون: الله أكبر.
المكان؟ بلادٌ كثيرة أراها من السماء السابعة، الزمان؟ السابع عشر من حزيران/يونيو 2019، الساعة السابعة مساءً، في الذكرى السابعة لاختياري رئيسا، الحدَث؟ رجال يبكون! وهل يبكي الرجال؟ أجل، لا يبكي الرجالُ إلا الرجالَ، أو لا يبكي الرجالَ إلا الرجالُ. قد يبكون، لكن هل ينتحبون؟ أجل، حين يشعرون باليُتم، ولو كانت أعمارهم 20 عاماً أو 80 عاماً! والنساء؟ يبكين. والأطفال؟ يبكون! وهل يبكي الأطفال لشيءٍ لا يفهمونه؟ بل يعرفون أنه أمر جلل وإن كانوا لا يفهمونه بالضبط، لأنهم رأوا أبطال حياتهم، آباءهم، في لحظةٍ مرهِقةٍ في حياتهم، سينتظرونهم إلى أن يفرغوا من البكاء ثم يسألونهم عن السبب، وحينها، سيمتلك الأطفال وحدهم الجواب!
الجواب الوحيد الذي لن يكون من كلام أو ورق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.