الصحة النفسية لا تقلُّ أهميةً عن الصحة الجسدية بأي حال، بل إن هناك العديد من الأمراض الجسدية التي تنشأ تحت وطأة الضغط النفسي والعصبي، فالعلاقة بين الجسد والنفسية علاقة وطيدة للغاية وتكاملية، وهناك فرع كامل في الطب يسمى الطب النَّفْسَجِسْمِيّ، وهو يُعنى بالأمراض النفسية الجسمية، وأبرزها هو "القولون العصبي"؛ نظراً لانتشاره الكبير في مختلف الفئات العمرية، وأصبح يصيب بعض الأطفال أيضاً. وهناك أيضاً قرحة المعدة والصداع النصفي وبعض أنواع حساسية الجلد، مثل الأكزيما، التي تُسبِّب إزعاجاً شديداً للمصابيين بها، وهناك أيضاً حالات أخرى مثل الألم الجسدي المبرح، الذي يعجز الطبيب عن كشف سببه العضوي، ويكون ناتجاً عن الصدمات أو اضطراب المزاج أو حتى الهستيريا، وفي هذه الحالة يقوم الطبيب البشري بإحالة المريض إلى طبيب نفسي.
أما ما يعتبره الأطباء النفسيون أخطرَ الأمراض النفسية التي تؤثر في الصحة الجسدية والقدرات العقلية معاً فهو الاكتئاب، ويلقّبونه بـ "القاتل الصامت"، أو "سرطان الروح"، وليس هذا مبالغةً منهم؛ بل هي ألقاب مخففة لخطورته في حالة تركه من دون علاج، مما يؤدي أحياناً كثيرة إلى الانتحار.
كما أنه -طبقا لإحصائيات الدول المتقدمة- يزيد من خطر الإصابة المتكرّرة باحتشاء عضلة القلب، كما يتسبَّب بتشويش عمل جهاز الغدد الصمّاء والعديد من العوامل الأخرى التي تؤدي إلى زيادة خطر الإصابة باضطراب في نظم القلب، كل هذا، وبالإضافة لانتشاره الشديد فهو ذو قاعدة عريضة كمرض القولون العصبي، ويصيب جميع الفئات العمرية، مما يجعل منه تهديداً حقيقياً إذا لم يُتخذ بشأنه قرارٌ بالعلاج مع المختصين.
كل ما سبق سرده ليس بمبالغة، فهي حقائق مثبتة، لكن وبرغم ذلك فإن هناك نسبة لا تقل عن 60% من مصابي الاكتئاب يرفضون الذهاب إلى طبيب نفسي طبقاً للإحصائيات، ولا يسعَون حتى إلى علاجه، بالرغم من تصنيف منظمة الصحة العالمية للاكتئاب على أنه واحد من أكثر الأمراض تعطيلاً للفرد عن ممارسة حياته وواجباته اليومية، في حين أنَّه يتحسَّن نحو 70% على الأغلب في الأسابيع الأولى من تلقّي العلاج المناسب.
ومنذ أوائل القرن الحالي بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت هناك حملات توعية منظمة بالطب النفسي، ومدى أهميته، وانتشرت ثقافة تداول المعلومات عن طريق صفحات الأطباء النفسيين الإلكترونية، بالرغم من أن صدى هذا الانتشار يبدو حميداً، إلا أنه تم استخدامه في كثير من الأحيان بشكل خاطئ كالاعتماد على المعلومات المكتوبة دون زيارة الطبيب، فيقوم البعض بتشخيص أنفسهم اعتقاداً منهم أن المعلومات بسيطة وصالحة للتطبيق من قِبل الجميع.
أدى هذا إلى قيام أخصائية الطب النفسي المصرية دكتورة ريهام الصباغ بأبحاث مع متابعيها، عن أسباب عزوف الكثيرين عن الذهاب إلى الطبيب النفسي، وكانت نتائج هذه الأبحاث نقلاً عنها كالتالي:
هناك أسباب أخرى ذكرتها د. ريهام، تعوق الذهاب للطبيب النفسي، وهي الخوف من الاتهام بالرفاهية، فذكرت أن العلاج النفسي في مصر يُنظر له بعين النقد، فمن يسعى للحصول عليه مرفّه غالباً، وهذا يجعل من يمتلك بعض المال يستبدل زيارة الطبيب بالذهاب إلى نزهة ترفيهية، أو حتى الذهاب إلى الغداء مع الأسرة أو المقربين كنوع من أنواع العلاج البديل من وجهة نظرهم، لكن هذا لا يؤدي إلي أي تحسن، بالعكس أي وقت مهدر من العلاج يزيد من صعوبة المرض ويجعل الهروب حلاً سلساً ودائماً مع الوقت.
أضافت "الصباغ" أن البعض أفضى لها في هذا البحث أنهم لا يثقون في الذهاب للطبيب النفسي، إما لاعتباره شخصاً غريباً بالكامل ولا يجوز الإفصاح له عن الأسرار، وإما لأنهم مرّوا بتجربة سيئة في السابق مع أحد الأطباء، جعلتهم يفقدون الثقة في الطب النفسي، وهذا الذي فسّرته بأنه ليس لعدم الاستمرار في المحاولة، فكل مهنة في العالم تحتوي على أشخاص محدودي الكفاءة، لأن القائم بها بشر وليس آلة، وهل الذهاب لطبيب أمراض باطنية لم يستطع أن يقدم تشخيصاً صحيحاً يعوق ذهابك إلى طبيب آخر؟ بالطبع سوف تسعى للذهاب إلى طبيب آخر، لكن نظرة المرء لزيارة الطبيب النفسي على أنها رفاهية أو وصمة، فذلك من الأساس يؤثر على قرار إعادة المحاولة في معظم الأحيان.
وقالت أخيراً إن الإنكار ليس حلاً، وإن النقود ليست عائقاً في ظل الحلول المطروحة من مجانية العلاج أو حتى الاتفاق مع الطبيب وإعلامه بظروفك المادية، ففي النهاية أنت المسؤول عن حياتك، لهذا فالحلّ هو أن تتحرى البحث عن طبيب جيد، وأن تسعى لبذل مجهود في تلقّي العلاج مع عدم الاستسلام.
عزيزي القارئ.. صحتك النفسية تؤثر عليك وعلى مَن حولك؛ لذلك لا تتردد في زيارة الطبيب النفسي بين الحين والآخر، حتى إن كنت لا تشعر بأعراض خطيرة، ففي كل الأحوال الزيارة ستساعدك على استعادة التوازن النفسي المفقود بين ضغوط الحياة اليومية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.