أطلق حزب العمال عريضة على الإنترنت، للمطالبة بإطلاق سراح أمينتِه العامة لويزة حنون، المعتقلة منذ 10 مايو/أيار 2019. منذ إطلاقها من طرف الحزب في 11 مايو/أيار 2019، وتداولها عبر شبكات التواصل الاجتماعي هذه العريضة لم تجمع حتى 2000 توقيع، والاهتمام بهذه القضية، وباستثناء بعض الحلقات السياسية والنضالية كان محدوداً، بل حتى تعرَّض أحد قياديي حزب العمال للطرد من إحدى مسيرات الجمعة في العاصمة، بعد رفعه لافتة تضامنية مع حنون.
هذا الصمت تجاه هذه القضية وغياب التضامن الشعبي مع هذه السيدة التي بدأت النضال منذ أكثر من ثلاثين سنة، وترشحت للانتخابات الرئاسية بالجزائر 3 مرات، والتي تتزعم حزباً يعد واحداً من أبرز الأحزاب اليسارية بالجزائر، ولديه نواب بالبرلمان، ويتمتع بحضور في الإعلام، صمت يدوي بالفراغ الذي يملأ المنظومة السياسية ببلادنا.
الديمقراطية تقوم على ذلك الوفاق المؤقت الذي ينتج بعد صراع بين طبقات المجتمع، صراع مستمر ومتجدد، حيث كل طبقة تدافع عن مصالحها. والطبقة التي تصل للسلطة، والتي هي أقلية في المجتمع تعمل على البقاء في الحكم حفاظاً على مصالحها وامتيازاتها، وذلك بتسخير واستغلال كل ما يمكنها استغلاله من مال وقانون وإعلام وحتى عنف، أما الشعب الذي تمارَس عليه السلطة فهو يدافع عن مصالحه مستغلاً عدده وإمكاناته بتنظيم نفسه في أحزاب سياسية، ونقابات، وجمعيات، وكل تنظيم أياً كان نوعه، للضغط على السلطة للاستجابه لمطالبه، وذلك بمختلف الوسائل كتنظيم المسيرات، والوقفات، والعرائض.
لكن حين تضعف تلك التنظيمات والمؤسسات التي يجب عليها أن تلعب دور الوسيط بين الشعب والسلطة، كما هو الحال عندنا، فإن المواطن يلجأ لاستعمال كل ما لديه من حلول وإمكانات للضغط، ولإسماع صوته للعنف، من غلق للطرق، أو احتلال للإدارات والمؤسسات العمومية، إلى التعبير عن سخطه عبر شبكات التواصل الاجتماعي. غالباً في مثل هذه الحالات يحدث أن يتحوَّل ذلك الصراع ولو في الهامش من صراع عمودي، أي بين الشعب والسلطة إلى صراع أفقي، أي بين الشعب الواحد، فالمواطن الذي يجد مواطناً آخر لجأ لغلق طريق -أياً كان سببه ودافعه- فإنّه لن يتفهَّم ذلك، ويعادي ذلك المواطن الذي اعتدى على حريته في التنقل، وحتى يمكن أن ينتقد مواطنون مواطنين آخرين، ويتهمونهم بالرجعية، فقط لأنهم اختاروا الاحتجاجَ بالصلاة، ومنع حفلة موسيقية تنديداً بالتهميش وتبديد الأموال العمومية، في مشاريع لا تهدف لتحسين حياتهم كما حدث في يوليو/تموز من العام الماضي بورقلة.
لا يمكن أن ننتظر من شخص أو مجموعة وصلت للسلطة أن تتنازل عنها ببساطة، وتتخلى بذلك عن امتيازاتها، مهما كان حبها لشعبها ووطنها، فكثير ممن بدأوا مسيراتهم ثواراً انتهوا ديكتاتوريين، لذلك لا بد من خلق سلطة مضادة أو معارضة تعمل على مراقبة وانتقاد والضغط، وحين يستلزم الأمر إسقاط تلك السلطة، وهذا ينطبق على كل المستويات، وليس فقط على أعلى هرم السلطة في الدولة.
منذ 22 فبراير/شباط 2019، اكتشف الشعب الجزائري أنه ليس ضعيفاً أمام السلطة، وأنه يستطيع أن يكون تلك السلطة المضادة التي تزعزع ذلك النظام الفاسد والمستبد. فهو يستطيع الخروج في مسيرات ضخمة عبر كامل ربوع الوطن كما يفعل كل جمعة، يستطيع شلَّ البلد بإضراب عام كما حدث في مارس/آذار 2019، كما يستطيع إسماع صوته حتى دولياً كما فعل بحملة الاتصالات أثناء تواجد عبدالعزيز بوتفليقة بمستشفى "جنيف" بسويسرا، في بداية مارس/آذار 2019.
السياسة هي إنتاج أفكار والسعي لتطبيقها، وفي الديمقراطية الحديثة ممارسة السياسة في إطار منظم وفعال بمشروع على المدى الطويل، وبطريقة فعالة، تتم عبر تنظيم المواطنين وتكتّلهم في جمعيات، ونقابات، أو أحزاب سياسية. فالحزب هو ذلك الإطار الذي يجمع مواطنين يتفقون حول فهمهم وشرحهم للواقع، ويعملون من أجل تغيير ذلك الواقع، وذلك بنشر أفكارهم في المجتمع، ثم الوصول للسلطة، فوضع قوانين لتنظيم المجتمع.
من أجل الانفراد بالسلطة وإبعاد المعارضة من المنافسة، النظام عندنا ألغى مبدأً أساسياً في الديمقراطية، وهو تداول السلطة. فعمل على تقزيم الأحزاب ودورها في المجتمع، وذلك بالقمع في حالات، والاستتباع في حالات أخرى. فنجح في تحويلها لمجرد ملفات في وزارة الداخلية، وأسماء وحروف على أوراق الصحف وشخصية واحدة ووحيدة تظهر في بلاتوهات التلفزيونات، وهي الرئيس الذي لم يشبع بعد، فيُسرف في نشر وإعادة نشر صوره في فيسبوك -هذا إن كان حزبه يملك صفحة- فأصبح عندنا أحزاب لا تتوفر حتى على الحد الأدنى من مواصفات حزب، فلا هي تملك برامج، ولا هي تملك مناضلين، ولا المواطنون وحتى المهتمون منهم بالسياسة يعرفون عنها ومنها شيئاً أو شخصاً آخر غير "الرئيس".
هذا الوضع ساهمت في تعفينه أكثر وسائل الإعلام، تلك التي وبدلاً من أن تساهم في الرفع من مستوى النقاش العام روَّجت لرؤساء أحزاب وسياسيين غريبي الأطوار، وحتى انتهازيين يصرحون بانتهازيتهم بكل فخر، أو لعنصريين يستثمرون في اختلافات الجزائريين فيقومون بنشر الكراهية وتأليب هؤلاء ضد هؤلاء، فزاد نفور المواطن من السياسة، وفقدانه الثقة بالأحزاب، مما خلق هوة بين الشعب والطبقة السياسية، التي من المفترض هي من الشعب وإلى الشعب. إلى درجة أن يصل شخص مغمور من دون لا ماض نضالي ولا حتى مجرد موقف، ومن دون برنامج سياسي كي يتحول بين عشية وضحاها إلى مرشح للرئاسيات، وشخصية سياسية تحتل صورتها الصفحات الأولى للجرائد، وتجد لنفسها مكاناً تحت الظلّ في الساحة السياسية بالجزائر.
تحصي الجزائر اليوم أكثر من أربعين حزباً سياسياً معتمداً، تلك الأحزاب لم تستطع لا التنبؤ بالحراك -أو الثورة كما يريد البعض تسميتها- قبل بدايته، ولا تأطيره بعد انطلاقه، ولا تحويل شعاراته إلى محتوى سياسي، ولا إقناع المواطنين بخارطة طريق لتحقيق الانتقال الديمقراطي المرجو، وفرضه على النظام الحالي، بل أسوأ من ذلك تم طرد الكثير من الوجوه السياسية من المسيرات، مع بعض الاستثناءات لأحزاب وشخصيات سياسية لم يتم طردها، لأنه لم يسبق أن كانت في السلطة، حتى ولو لم تتمكن سابقاً من لعب الدور المطلوب منها.
فهذا الحراك قام لإسقاط النظام، الذي تعد الأحزاب السياسية والمنظومة السياسية الحالية من نتائجه، سواء كانت من أحزاب أدوات السلطة أو حتى المعارضة، فالأخيرة لا تمتلك لا الشرعية -باستثناء الشرعية الإعلامية للبعض- لتمثل تلك الملايين من الجزائريين في الشارع، ولا الإمكانات البشرية ولا المادية لتأطيرها، فاكتفت بالسير مع السائرين كل جمعة، وبمحاولة ترجمة وإعطاء قراءات لتلك الشعارات التي يرفعها المواطنون، حسب منظورها.
اليوم لا يمكن استكمال ما بدأ، ولا بناء جزائر الغد الذي يريد الجزائريون بدون مؤسسات قوية، ولا يمكن الوصول لتلك المؤسسات القوية بساحة سياسية خاوية. فلا سبيل سوى إحياء روح النضال السياسي التي حاول النظام قتلها وضخ دماء جديدة في شرايين الأحزاب التي عمل النظام على إفراغها من محتواها، ولعل ذلك يبدأ بالدفاع عن حق الجزائريين في الاختلاف، وحريتهم في التعبير والاجتماع، وعلى ألا يسجن جزائري بسبب آرائه أو نشاطه السياسي، وخصوصاً في مثل هذه المرحلة الحسّاسة، فهذا الفراغ السياسي الذي نعيشه هو الأكثر خطراً على مستقبل الدولة من ذلك الفراغ الدستوري الذي كثُر الحديث عنه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.