يوم في الدائرة الحكومية، حيث تكون "شرشحة" المواطن من أهم أولويات الموظف المقهور، الذي يجلس خلف كومة من الملفّات ويتقنّع بوجه عبوس يقطر منه البؤس والأسى…
تدخل إلى مكتبه حاملاً في يدك ملفّاً أو ربما ورقة، تلقي عليه تحية الصباح فلا يجيب… تتنحنح علّه ينظر إلى سحنتك ويعطيك دقيقة من وقته، ولكنّه ينظر إليك من خلف نظارته السميكة باحتقار.. بنظرة تخترقك كالسهم.
إنه الموظف المقهور الذي يأتي كلّ يوم غصباً عنه، ليقضي ساعات يومه الممل بانتظار الراتب آخر الشهر، وعندما تظهر أنت أمامه يتذكر ضعفه وقلة حيلته، وقد يتذكر فاتورة الماء والكهرباء والغلاء المتصاعد فيصبُّ غضبه عليك ويمطرك بوابل من الطلبات ويضع أمامك العراقيل.. إنها عراقيل حياته ومأساته الكبرى، فلمَ لا تعاني كما يعاني وتشرب المرّ مثله.
يتناول ملفك بحدّة، وبمجرد أن ينظر إليك يأتيك صوته راعداً: المعاملة ليست عندي، اذهب إلى طابق "التسوية"، فتهبط إلى التسوية لتكتشف أن لا شيء هناك سوى أدوات التنظيف والمستودع، فتصعد الدرج مرة أخرى وتعود إلى غرفته، فيقول لك: من قال لك أن تذهب إلى التسوية؟! إن معاملتك في الطابق الثاني.. بعد أن تنتهي منها تعال إليّ.
تصعد إلى الطابق الثاني وأنت تستعين بالصبر وتطلب من حواسك الخمس أن تصمد في مواجهة هذا اليوم المرير، ولكن بعد تنقلك من مكتب إلى مكتب، تتعطل آلة التصوير ولا يمكنهم تصوير هويتك، التي من المفروض أن رقمها يكفي لإنجاز المعاملة، فتخرج إلى الشارع بجنون، فالوقت يداهمك وسينتهي وقت المغادرة الذي سمح لك به مديرك.
تعثر على مكتبة وتأخذ الصورة المقدسة، وأخيراً تتجه إلى مكتب الموظف المقهور فينظر إليك بطرف عينه ويطلب منك الذهاب إلى قسم المحاسبة.
تنفرج أساريرك؛ فقد اقتربت من خط النهاية، تسرع بالمعاملة إلى شباك المحاسبة، حيث تجلس خلفه فتاة لم تدخر جهداً في وضع جميع ألوان الطيف بوجهها. تقف أمامها بثقة وتقدّم المعاملة، ليأتيك صوتها الحاد الرفيع: ثلاثة دنانير!
وعندما تمد يدك في محفظتك لا تجد سوى عشرة تقدمها لها.
تحرّك العلكة في فمها وترمي إليك العشرة، قائلة: شو أعملك؟ ما معي صرافة؟ روح اصرف وتعال. وتدير وجهها عنك، لتطلق ضحكة عالية مع صديقها الموظف.
تتحدث معها مرة أخرى: من فضلك، أنت في قسم المحاسبة، أرجو أن تتدبري الأمر. لا يمكنني التأخر أكثر من ذلك. فتنفجر غاضبة في وجهك: هذا ليس من شأني . حلَّ مشكلتك بنفسك، والنظام أيضاً عطلان، لا أستطيع أن أمشّي معاملتك. يجب أن تنتظر نصف ساعة على الأقل.
إنها نصف الساعة التي تحتاجها لتنهي حديثها مع زميلها الموظف.
تفقد شعورك بالهواء من حولك ويضيق بك المكان.. تنطلق كالسهم إلى غرفة مجاورة يجلس فيها أكثر من موظف: أرجوكم أريد صرافة عشرة دنانير… يكفي ذُلّاً.. سأُطرد من عملي من أجل 10 دنانير ومن أجل صورة للهوية ومن أجل النظام المعطّل.. إنها مجرد ورقة طلبتها مني مَدرسة ابني. ينهض موظف شاب من مكانه ويخرج محفظته ليصرف الدنانير العشرة، وتسمع صوت الموظف الآخر: ما هذا الهراء؟! هذه وظيفة المحاسبة!
يخرج معك الموظف الشاب إلى شباك المحاسبة ويقول للموظفة: خذي ادنانير الثلاثة ومشّي المعاملة. تنظر إليكما بدهشة وتجلس خلف الحاسوب الذي تعود إليه الحياة فجأة، وتطبع الورقة فتذهب إلى الموظف المقهور الذي يقطر منه الأسى، فينظر إليك بشيء من الانتصار ويضع توقيعه على الورقة. تخرج بصك الغفران من الدائرة الحكومية وترفع رأسك إلى السماء فترى لافتة كبير معلّقة على بناية الدائرة الحكومية:
"الحكومة الإلكترونية لتخفيف العبء عن المواطن".. تتفقّد حواسك وتمضي..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.