يوماً ما في هذه الدنيا الضيقة الواسعة ستُشاهد نفسك من بعيدٍ جداً. ثم ستلوّحُ إلى ذاتِك التي تركتها وانسلخت منها لأنك نضِجت أكثر من اللازم وانتهى عهدُ الثرثرة التي كانت تجتاحك عند آدميّتِك الأولى. ستدرك مع ذاك الانفصال أن ما كان أمامك كبيراً بات يصغر شيئاً فشيئاً.
ثم وأنت تنظُر إلى نفسك من بعيد ستتسارعُ إليك جميعُ ذكرياتك ثم تتضحُ الصورة لتكشف لك الحقيقة بل جميع الحقائق. لن تقول ما بالي أصبحتُ هكذا؟ ولكن ستقول بعد كل هذا العناء وتلك المحطات والعثرات والحروب ما الذي تعلمتُه وأين أقفُ الآن؟
هل حققتُ جميع ما ناضلت من أجله؟ وهل فعلاً اتسعتْ ذائقةُ طموحاتي؟ وإن كانت الإجابة نعم، هنيئاً لك الانتصار ولكنه ليس كل الانتصار.
كل من على هذه الأرض يملكُ [رمزاً] لا يُشبه رمز أحد منا، ولكن في المقابل لكل منا طريقته في إبراز رموزه. نحن كبشر ننشقُّ ولا نتّفق، ولكنْ هناك نقاط نجتمع عليها وأهمها "الروح" فلا تتجاهل الروح وشغفها نحو اللامعتاد، روح بشرية عميقة تُخفي تفاصيلها ولكن لا تخفي لُغزها. فروحُ الإنسان تتشابه مع الطبيعة تماماً؛ فبقدر ما تتبدى لنا بحسنها، فإنها تحجبُ عنّا سرّها. ومهما تعددت الشروح والإمعانات حول (ما هو الإنسان) فإنّ عظمتك تتجاوز كل التحليلات فإنّك أيها الإنسان أكثر الأشياء جدلاً.
كم هو غريبٌ كيف تضيقُ علينا الدنيا نحن البشر، ولكننا نعطيها غير آفلين ولا جاحدين، مارّين غير عاجزين، مزهرين بأفكارنا أينما سؤلنا دون أن نعطي بالاً إلى قسوة الحياة وكأننا نتلذذُ الألمَ، ثم وكأننا بالتلذذ " نعيش ونموت عيشنا بشرف".
وغريبٌ أمرنا أيضاً نحن البشر، كم وافقنا على الانبطاح منذ البدء، منذ الضربة الأولى أسقطنا أشرعتنا وأحببنا الانعزال وأعلنّا الهزيمة.
ما أنت وأنا إلا أنت أنّي، وما العالم الذي يجمعنا إلا تصادم وليس انصياعاً. لذلك ابحث عن نفسك وسط كل ذاك التصادم وواجه ما تركتَه خوفاً من الهزيمة. اجعل منك قضية، المحور الثابت الذي وجب الاهتمام به واترك التقوقع الفارغ الذي لا يُثريك بل يُقصيك. ابحث عنك قبل أن يجدها لك غيرك، فلا تدري لعل ما تبحث عنه خارج حدود ذاتك، يحيط بك دون علم منك، لذلك اعتنق العالم.
فأن نعيش الحياة جامعين بوعي بين رغبات ما نريد ومتطلبات العقل ونزعات الروح دون اختلال بينهما رغم الاغتراب، فهذا المسار التوازني الصحيح. فلا تكن إنساناً يريد الهروب من الحقائق، مبصراً في اللاشيء، إنساناً يريد الانفصال عن كل ما هو حقيقة فقط ليتخلص من قلق كيانه وسؤال كينوته. فشرفُ العقل في المحاولة، وإن كانت المحاولة على الأقل تبشّر بفشل مسبق.
إن جوهر الإنسان يتمحور حول دوائر بحثية أربعة " هل؟ / وما؟ /وأي؟ / ولم؟." فإنّ التساؤل كان له دور أساسي في بُنية الإنسان الفكرية، فلقد سبق وقال أبوحيّان: "الإنسان مخلوق منقرضٌ يتكامل، يخلق مجموعة من الإمكانات ثم يحقق ذاته بذاته ويكمل ويتكامل ويستكمل، فصار كل شيء يطلبه ويتوفاه سبباً إلى كماله المعد له وغايته المقصودة".
فالغاية من الحياة ليست إفناءها في طلب المتعة ولا صرفها في الانصياع في اللهث وراء الخوف والوقوف على أطلال المأساة. لقد بات إنسانُ اليوم رهينة حزنه، يبحث في الألم. فلم يعد يُبدع ولا حتى التقدم، غرق في وحل العجز دون أن يبذل جهداً للتقدم والمواصلة، واصفاً الحياة بأنها القاهرة لكل الطاقات الإنسانية، بل يذهب أكثر من ذلك ليصف الحياة كأنها نذير شؤم على البشرية.
إن الحياة تعانق فينا قوانا الليّنة لتمتزج الدمعة مع الابتسامة لتلد الفكرة ويتداخل الأبيض مع الأسود لتلد الرؤية الواضحة حيث تتحد الأرواح لترمم النفوس التي زجّ بها وهمها في مرآة تعكس جوانبنا المظلمة التي نعبدها عبادة. فنحن ندرك أن الإنسان يشقى ليسعد، ويسعد ليشقى تلك هي لعبة الحياة الكبرى فليس من الداعي أن نبتذل حياتنا وأن نندب حظنا ثم نجلد أنفسنا.
إن الإنسان العظيم هو ذاك الإنسان الذي مهما قارعته الحياة بسلاح العجز أو خيّرتْه بين أمرين كلاهما فاجع خرج منتصراً، صامداً لأنه توكل على الله ولم يتواكل.
هناك هزائم ضرورية وجب أن نعيشها من أجل إعادة البناء والتخطيط للصواب وعدم الغوص في الخطأ، فالنصر فن الإثارة لا فن الإيضاح.
لا أحد يُنكر أن الواقع قبيح في ذاته، وأن الشر وليد تلك اللحظة الباطلة التي أسسنا لها. ولكن ما نعلمه قطعاً أن الخير يدحض الشر ويؤسس لطريق اليقين، طريق الحقيقة التي لا نحب اكتشافها خوفاً مما تحمله لنا. إن الإنسان هنا هو تلك الحكمة الممزوجة بالمعرفة والمهارة التي تدفعك لحل لغز الواقع الذي نحن مساهمين فيه.
من الواضح أننا تعودنا الانبطاح للحياة، أن نعطي الأشياء أكبر من حجمها في المقابل كانت الصدمات التي نتلقاها تلقي بنا في حفرة ضيقة نستجدي سقوطنا. نحن بسرعة بالغة نرفع سقف أوجاعنا ونعيش الدور التراجيدي البائس دون أن نعطي بالاً للشق الآخر من تلك التجارب التي قد تصنع منا أشخاصاً فاعلين. واستمتعنا بالألم إلى أن ابتذلناه، لا نعرف أن الألم شعور نبيل جداً مثله مثل الفرح والمشاعر الصادقة النابعة من روح إنسانية واعية لا سطحية.
إن لغة الضعف الذي أعجبنا البقاء فيه عمداً وطوعاً منا سبّب لنا خلقاً جديداً لذواتنا فأصبح الخنوع حلنا الأخير. إنه من المزعج حقاً والمؤسف والمثير للشفقة أن تقبل الشفقة على نفسك. لذلك ليس من باب الصدفة أن تعطيك الدنيا بالقفى وتقف أمامك تضحك منك وعليك، وليس من باب الفجأة أن تجد نفسك علّة ومجروراً من عنقك لا فعل لك ولست مفعولاً به، لا سبباً بل خبراً ولا اسماً يذكر فيه. وكأنك كثور الطاحون على عينه غطاء، يدور ثم يدور وهو يحسب أنه يقطع الأرض سيراً إلى الأمام في طريق مستقيم ولكن كانت الأرض طريقاً مسدوداً أمامك ونهاية ذلك الطريق عود على بدء.
كنتَ إنساناً تلهو مهمِّشاً الجانب الإبداعي الذي فيكَ، ولا تدري أن اللعب سيكلفك حياة فارغة تافهة خالية من كل مقومات الحياة. فإن كانت الهزيمة والخنوع فالألم الذي لا تريد الابتعاد عنه أمراً يثبت أنك خُلقتَ من فراغ؛ لكن اعلم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. إن الحزن ينجلي حين تقف شامخاً أمام مصاعب الحياة، أن تقاوم بكل قوة نقاط ضعفك وأن تهب لنفسك قيمة وطموحاً، وأن تعيش رمزاً وتموت كذلك، فلنا الأحلام حتى لا تقتلنا الحقيقة، وإن الصراع والصمود هو من يخاطب فينا الروح وإن كانت خرساء. وأنت أيها الإنسان بك تصبح الأشكال أسلوباً، والحياة لا تصنع أوهاما محسوسة بل تكشف لنا الأثر الواقعي، بل إن الحياة فن الإثارة لا فن الإيضاح.
افتح ذراعيك للعالم وقل أنا هنا فوق هذه الأرض، افتح جميع نوافذك ليعبر من تلك الثقوب النورُ وارفع أشرعتك عالياً نحو اللانهاية وعانق الرياح ودعها تعبر منك نحوك. انظر إلى السماء كيف كانت مكتظة وليست من عدم، لقد كانت بين بين، لا خالية ولا تعج وتمعن روعة الوسطية. تمعن أيضاً في الكون وكل الأشياء فيه هل خلقت عبثاً لتموت كذلك؟
قرر في تلك اللحظة المتسارعة نحو الزوال إعادة رسم قدرك وأكمل ما بدأت به، كفاك وقوفاً على الأطلال فأنت لست قيساً والحياة ليست ليلى.
ألا يكفيك الوقوف على الأطلال يا مجنون ليلى؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.