نسمات قدوم شهر رمضان تبدأ تهب على العالم الإسلامي منذ دخول شهر شعبان، فتبتهج لها النفوس ويسعد بها الصغير قبل الكبير، وخصوصاً أن رمضان ضيف مميز يحمل أجمل الصفات والهدايا السماوية من الرحمة والمغفرة ويضعنا قريباً من الله نلح عليه بالدعاء في أوقات العبادات المختلفة، ونحن موقنون بالإجابة، ويكفي أنه الشهر الوحيد الذي يجتمع فيه ملايين المسلمين على عبادة الصيام، وهو أول من يصحب معه أفراح قدوم العيد كل عام، لذلك استقبال هذا الضيف العزيز لها أصولها وطرقها والتي تختلف من مكان إلى آخر.
مراسم الاستقبال
في أوطاننا يتم استقبال رمضان بصورة جماعية واضحة المعالم في الدولة الواحدة، فهي ذاتها في الحي والشارع والمنزل الواحد، ولكن في الغربة نحاول قدر الإمكان أن نحاكي هذا الاستقبال والابتهاج داخل محيط منازلنا بالزينة والتحضيرات وحديثاً ضمن مجتمعات افتراضية على السوشيال ميديا حتى يتسلل لنا فرح الزائر القادم والمغترب مثلنا تماماً.
لحظات استقبال رمضان في ألمانيا عادة عصيبة يرافقها القلق، حيث يختلف المسلمون دوماً على ميقات قدومه، فمنهم من يلتمس نوره من خلال مراقبة الهلال، ومنهم من يعتمد موعداً محسوباً بدقة ويكون مجيء رمضان هنا حتمياً وواضحاً، وتبدأ تهل على هواتفنا الرسائل النصية إما بتبادل التهاني أو أخرى تتساءل هل أعلن عن قدوم رمضان؟ حتى في محيط مدينة صغيرة تختلف المساجد في استقبال هذا الزائر فتجد أحدها قد بدأ الاستقبال بتكبيرات التراويح والآخر أطفأ أنواره معلناً أن رمضان سيزورهم في اليوم التالي، وأما الأطفال الصغار الذين اجتهدوا في تحضير هدايا صغيرة لرمضان قد رسموها بأناملهم وعلقوها مفاجأة له على أبواب غرفهم وساهموا مع أهاليهم في تزيين البيت بالأضواء المبهجة والفوانيس والتي تضيء معها قلوبهم الصغيرة يتساءلون بحزن: ألسنا جميعنا مسلمين فلماذا لا نستقبل رمضان معاً في ذات الليلة؟
هذا السؤال الذي يكاد يكون سنوياً حيث يقف الأهالي فيه عاجزين عن إجابة أطفالهم ويكتفون بالدعاء في قلوبهم بأن يجتمع المسلمون في الرأي في استقبال العيد وألا تنطفئ بهجته في قلوب أطفالهم.
الأجواء الخارجية
، وكذلك في محيط العمل لابد أن تتحلى بالصبر وطولة البال حتى تعيد قصة الصيام في أول أيام رمضان عشرات المرات، لكل من يسألك لماذا تصوم وماذا يعني رمضان؟ وعليك أيضا أن تكون قوي القلب لمقاومة نظرات الشفقة، لأنك تحرم نفسك مع سبق الإصرار من شرب الماء، وخصوصاً إذا جاء رمضان في أيام الصيف الحارقة، ولذلك يجتهد البعض منا لاستحضار نقاش علمي ممنهج عن فوائد الصيام وأهميته من ناحية روحانية وجسدية.
ويجتهد الكثير من المسلمين على اختلاف الثقافات في تحضير هدايا رمزية صغيرة تحمل معالم تراث البلد، فقد تكون تمرات أو بعض أنواع الحلويات ملفوفة بشكل جميل مع إهداء جميل بمناسبة رمضان، ويتم توزيعها إما على زملاء العمل أو على الأصدقاء والجيران الألمان في لفتة جميلة تحمل معنى التراحم والمحبة الذي يتصف به ديننا الإسلامي، وتأكيداً على قول رسولنا الحبيب "تهادوا تحابوا"، وكذلك هو إشهار جميل بأننا نستقبل ضيفاً مميزاً ولنا في هذا الشهر طقوس خاصة بنا.
في السنوات الأخيرة تحديداً ومع زيادة أعداد المسلمين في ألمانيا بسبب الهجرة السورية، أصبح شهر رمضان تظهر معالمه أكثر ولم تبق فقط محصورة ضمن المنزل الواحد، حتى إن بعض القنوات الألمانية خصصت مساحة تحدثت فيها باقتضاب عن معنى شهر رمضان والصيام والذي يلقى ترحيباً واسعاً من جهتنا كمسلمين لهذا الاهتمام الإعلامي وإثبات أهمية وجودنا كمجتمع له معتقداته كأي مجتمع آخر يعيش في ألمانيا.
النشاطات الأهلية في ألمانيا
في محيط العديد من المساجد والمراكز الإسلامية تلمس وجهاً جميلاً آخر من معالم رمضان، فهناك تكثر النشاطات المختصة بشهر رمضان من إفطارات جماعية وصلاة التراويح وقيام ليالي العشر الأواخر، كما أن هناك نشاطات مميزة وموجهة للأطفال، ولا بد أن أشيد بأهمية العمل النسائي في تنظيم هذه النشاطات والتي من شأنها خلق أجواء بهجة يجتمع فيها الكثيرون على شعيرة الصيام، ويتم التفنن في طرق تعريف الأطفال بمعنى الصيام وأهميته باللغة الألمانية وتوجيه الأطفال إلى طرق الإجابة عن الأسئلة التي تطرح عليهم في المدارس الألمانية، وكذلك تنظم لها إفطارات خاصة تدعى بإفطار العصافير ويتم فيها الاحتفال بصيام الأطفال لعدد قليل من الساعات في خطوة تشجيعية على الصيام وتوزع عليهم الهدايا وكذلك تنظم لهم بعض المسابقات الرمضانية الثقافية أو مسابقات حفظ بعض من أجزاء القرآن الكريم وتعقد لهم احتفالات إبداعية مميزة.
ومن الجدير بالذكر كذلك أن هناك العديد من المراكز والجمعيات الأهلية تنشط كذلك في تنظيم إفطار رمضاني جماعي يتم فيها دعوة العديد من الشخصيات الألمانية المهمة في المنطقة يرافقها برنامج جميل للتعريف بشهر رمضان من خلال عرض لوحات تراثية أو استضافة شخصيات دينية مرموقة وكذلك يتم وضعهم في أجواء فرحة إفطار الصائمين، ومثل هذه المبادرات تلقى ترحيباً واسعاً وتربط جسور محبة بين الجميع، في إشارة إلى أننا قد نختلف في الأديان، ولكن تجمعنا معاني السلام والمحبة.
في السنوات الأخيرة شهدنا العديد من الإفطارات الجماعية والتي يتم تنظيمها داخل الكنائس والمراكز المسيحية، في لفتة اجتماعية مهمة للتلاحم والمحبة بين الأديان المختلفة في المجتمع الواحد، والتشديد على ضرورة احترام حرية المعتقدات في ألمانيا، ويشارك فيها شخصيات دينية من الطرفين من خلال كلمات الترحيب التي يؤكدون فيها على أهمية هذه المبادرات وضرورة التعاون بينهم، ليعم السلام على الجميع، ويتم كذلك داخل الكنيسة رفع أذان المغرب في إشارة إلى دخول وقت الإفطار للصائمين.
ولابد أن أشير أيضاً إلى الحملات الخيرية الكثيرة التي تعقد في هذا الشهر الفضيل، إما من خلال مساعدات مالية أو عينية تجمع وترسل إلى الدول التي تعاني حروباً ومجاعات، أو تكون كذلك على مستوى العمل الفردي، فهناك الكثير من المسلمين يتسابقون على عقد إفطار جماعي في مركز إسلامي أو مسجد فيطبخ فيها ما لذ وطاب للصائمين من المغتربين الشباب أو الطلاب أو اللاجئين، فيصنعون لهم أجواء عائلية مليئة بالبهجة والسعادة رغم ألم الاغتراب.
أخيراً رمضان كيفما أتى وأينما حل يحمل معه الكثير من الجمال والروحانية، فنحن في المغترب نفتقد جداً لأشكال عديدة من جمال رمضان في أوطاننا كأصوات المآذن ومدفع رمضان والمسحراتي واجتماع الأهل والأقارب والمحبين، ولكننا رغم ذلك نسعد به مغترباً مثلنا، ونحاكي أجواء بلادنا ما استطعنا لذلك سبيلاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.