من جديد، في مكالمة الفيديو، قالت لي جدتي: "احلويت يا حبيبي"، ضحكتُ وعادة الكلام أن يقف في حلقي إذا نظرت إلى عيني جدتي، وإذا أردت الكلامَ لم أنظر إليهما، فما جعل الله لرجلٍ من قلبين في جوفه؛ إما القلب الذي أسمعه في صوتها، وإما القلب الذي أراه في عينها، وجدتي متعِبةٌ في هذا، لأنها تحمل قلباً يُحَسُّ في كل حركةٍ وسكون، فكم يتحمل جوفُ الواحدِ منا مِن قلوب يا سِتي؟
في المرة الفائتة حين رأتني في الشاشة قالت الكلمة نفسها ثم قبَّلتني، لم أستطع الرد. كنتُ أريد أن أقول لها شيئاً أكبر من "القرد في عين أمه غزال"، لكن لو قلتُ لأجابتني: "غزال إيه جنبك؟" فسكتُّ. لن تعطيني الفرصةَ كعادتها، ستدعو لي بـ"رصَّة" الدعوات نفسها، تحفظها عن ظهر قلبٍ ولم يتغير حرفٌ فيها: "يجعل لك في كل خطوة سلامة وفي كل سكة حبيب ومنين ماتمشي رفيق" ثم تتبعها باللاحقة الثابتة: "وأنا كاشفة راسي.. عشان الدعوة تُستجاب" ثم تضحك.
لم أرها يوماً تبكي، عيونها ثابتة في محاجرها، وجلستها جلسة أسدٍ في عرينه، لو كان لأبي الهول زوجةٌ تقاسمه شموخه الصامت، لما أتى في عقلي غيرها: أم الهول، لا تُعبر عن مشاعرها ولا تفصح عن مكنونها، تكتم كل شيءٍ في نفسها ليصفو، وتبتلع كل حزنٍ في حلقها حتى لا يتسرب إلى قلوب الأولاد. تراهنُ الزمانَ على الفرَج.. فتُفرَج، وينهزم الزمان.
حين اعتقلتُ كانت في بلاد الرسول، قالوا لها أتمي إجازتك واذهبي، الولدُ بالسجن، ماذا تفيد عودتك العاجلة إلى مصر ما دمتِ ستظلين بعيدةً عنه أيضاً؟ لم تجِبهم، غضبَت حتى حجزوا لها التذكرة وجاءت، قالت إنها لا تقدر على تركي وحدي، لن تطمئن إلا إذا كانت تتابع الأخبار مِن قرب، من عرشِها في صدر البيت، حتى إذا أتيحت الزيارةُ اطمأنت بنفسها. أتيحت الزيارةُ وكانت أول الحاضرين، ضمت رأسي من وراء الحاجز، ابتسمَت، ولم تبكِ.
بعد المكالمةِ، فتحتُ الصور التي ألتقطها عادةً أثناء الحديثِ للذكرى، لم أصدق عيني! كانت دمعتان تظهران بوضوح تحت عينٍ تخفي البكاء، لم يحتَج الأمر إلى تأويلٍ ولا تدقيق نظَر، الآن للمرةِ الأولى في حياتي أراها –وهي عزيزة الدمع- تدمع، أهو الشوق؟ أقول لا، إنها الدموع وفقط، ولا يمكن تحديد السبب. إن أنفَ "أبو الهول" كُسرت منذ زمن، وهاهي "أم الهول" الليلة، تنكسر أنفها أمام شيءٍ لا تعلمه ولا نعلمه. وعلى ذلك فإنني لم ألحظ في حديثنا دمعتيها المحصورتين بالعدد، لم أرهما إلا بعد انتهاء المكالمة، لم تكن المشكلة أبداً في اهتزاز الصورة، فقد كانت واضحة، ولكن ربما لأن صورتَها التي في ذهني ما زالت أكثر ثبوتاً من تلك التي في الشاشة. من قال إن الرجال لا يبكون؟ الرجال يبكون، جدتي هي الوحيدة التي لا تبكي.
أقول أمي، وتقول سِتي، ويقول صاحبي تيتا، وتقول صديقتي نينا، ويقول ابن الجيران جدتي، لكن المعنى واحد وإن اختلفت التسميات، الموضوع نفسه مع اختلاف العناوين، رائحة الأنفاس، حرارة القرب، الحِجر الدافئ، الحضن الواسع، العيون المنتبهة دائماً، الابتسامة الخفيفة، الضحكة المتمهلة، الصمت الكثير، النظرات النافذة، الهالة القدسية، الثوب الزهري، الشعر الفضي، الحنة البنية، الحذاء الأسود، المنديل الأسمر، الشال المسدول، الدعاء الطويل، الغزل الذي لا ينتهي، الجنيهات التي كماء زمزم لا تقل ولا تكثر، الحضور في اللحظة المناسبةِ والمكان المناسب بين حِزام أبي وجسمي، العُمرُ الذي لا يمر، السن الثابت، الوجه الذي وجدناه كبيراً فلم نر عليه من جديدٍ تغيرات الكبَر، الإجابة الموجَزة على كل مقارنةٍ بخصوصنا، تقول حاسمةً: "ما أعز من الولد إلا ولد الولد".
منذ ست سنوات، أسيرُ في شوارعِ الغربةِ وحدي، وعلى رأس كل شارعٍ قبل الناصية، أتوقفُ لحظةً أنظر فيها ورائي، فأجد جدتي على عتبة بيتِنا بصف البيوت التي على الجانب الأيمن، واقفةً تلوح لي من بعيد، تقول بصوتٍ مرتفع: "الليل برد يا ابني.. اقفل زراير الجاكيت، وطمني لما توصل".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.