عشتُ في تلك البلاد الواسعة قرابة خمس سنوات، تذوقت بها طمع الحياة بأوجهها المختلفة في مسرّاتها ومضراتها. وكان البلد مفعماً بالإنسان، وكانت العاطفة والتآخي والتآلف سمة طبيعية عند الناس، فلا تراهم إلا وهم مرحبون ومبادرون بإلقاء التحايا وبشاشة الوجوه بطيبة ونور يشع من وجوههم… وباختصار كانت بساطة يرافقها الغنى الأخلاقي والرجولة والشهامة، ووقفة الأُخوّة في أحلك الظروف وأضيقها.
تلك الطيبة اعترف بها أهل العرب والعجم، وكل ما جاور هؤلاء القوم واختلط طعمه بطعمهم وشاركهم المجالس والحكايات، ولايبادر في ذهنه عند الحديث عنهم سوى إجلال وإكرام لإنسانيتهم التي قلّما نلاقيها في عالمنا هذا.
إنها السودان، ليست كغيرها.. وفي رمضان تتغير الأحوال ويكثر السباق نحو الخير، فهو موسم العبادة والتآخي وإمساك يد الضعيف ومواساته، وتذكّر الفقراء المحتاجين، والتقريب بهم وإحساسهم بالأخوّة والمساواة الإنسانية من منظور ديني وإسلامي قيم.. فهؤلاء القوم فهم خير السبّاقين لأداء هذا العطاء والسخاء الرمضاني، الذي قلّما تلقى أحدهم يتأخر عن القيام من أجله، فالكل لهم أسهم بقلة أو بكثرة كيفما كان وحيثما كان.
ومن أهم ما لا يزول عن خاطري، في الأيام الجميلة في قلبي، هي تلك التي أخذتها في أيام رمضان المبارك، لولا الظروف والمشاغل لطلبت الصوم في تلك البلاد في كل رمضان يمر عليّ طوال طوال عمري.
ففي رمضان 1433 هـ كنت مع قافلة نظمتها جامعة إفريقيا العالمية، التي توجهت صوب الشمال "ولاية الشمالية" بمروي "جرير"، هذه المنطقة الصحراوية الحارة والتي يصل درجات حرارتها إلى ما يفوق الخيال، فهي من أحر المناطق، ومع ذلك كنا نؤدي أعمالنا بكل صبر وتحمّل.. والصوم في هذه المنطقة له حكاياته الخاصة.. ولكن مع كل الصعوبات المناخية والصوم معاً، كانت معاملة الناس الطيبة وحسن ترحابهم للضيوف كان ينسينا كل الأتعاب والظروف الصعبة.
وأهم ما أتذكره هو أن الأمسيات ينهمك الأهالي في إعداد الإفطار بصورة جماعية، وبأفضل المأكولات المتوافرة لديهم، وبأنواع متعددة، ويوضع على صحن عريض يتسع لوضع كل تلك الأنواع المختلفة من الأطعمة، ثم يفترش السجادات في أفنية واسعة الأفق خالية من أية أبنية، ثم يحضر كل أهالي تلك المنطقة أفضل ما طاب لديهم من الأطعمة، فالكل في تسابُق من أجل هذا الخير والكرم.. وهذا الكرم ليس مقتصراً على من سعت يده وإنما الكل يشارك على القليل الذي عنده، ولا تجد متأخراً مهما كانت الظروف ضيقة أو صعبة عليه، ولا يوجد مارة في الطرق إلا أوقفوهم عنوة، وأرغموهم على الجلوس ومشاركة الأكل معهم، فما أحلاها عادة.
وبعد الجلوس والاستعداد للإفطار، ينشغل الكل بتبادل الحوارات والمعانقات، والتعارف، وتبادل الحديث والحكم، والأحاديث الشعبية، وكذلك يتفقد كل واحد جاره المتخلف عن هذه الجلسة لعل مكروهاً أصابه أو أي أمر طرأ عليه.. فهي جلسة أكل وتودد وتآلف بين الجيران.. وبعد الأذان يأكل الجميع إفطارهم، ثم يصلي الجميع الصلاة ثم ينقلب كل إلى بيته مبتسماً فرحاً لما قام به من كرم وصلة بالجيران والإخوة.
تلك اللحظات وأخواتها حاضرة في كل بقعة من تلك البلاد الطبية، فلا المدن والبادية تختلف عن غيرها، فالسجادات المفترشة في جوانب الطرق كانت وما زالت عادة أهل تلك البلاد، لا تتوقف بتبادل الزمان والإنسان، فهي سمة اتصف بها أهلها، وصارت مديحة وشرفاً يقر بها أهل الأرض كلهم، من أية بقعة كانوا.
وأخيراً.. لحظات رمضان في البلاد العربية كلها جميلة وطيبة، فهي تتصف بالتقارب والأخوة، ولكن في السودان يختلف رونقه ويتميز عن الكل.
وقال الشاعر الحدري في قصيدته:
وغربتي علّمتني أنني مكره ** بأن أصبّر نفسا دمعها مطر
كفى العذاب لها في هذه الدنيا ** إن لم يطمئنها الإيمان والقدر
أو لم يطمئنها أرض نزلت بها ** فيها الكرام وفيها الضيف يعتذر
الطيبون إذا لاحت سرائرهم ** تلقى المودة في أحشائهم درر
ومنهل كنت في لقياه منهمك ** حتى وقفت على شطيه ينهمر
إذا تنفس في أرض وأنت بها ** لتدركن بما لا يدرك البصر
ما كان للجود ركنا غير أربعة ** النيل والبحر والسودان والسمر
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.