كانت الطائرات الحربية ترمي بأثقالها المدمرة نحو رؤوسنا ورؤوس أطفالنا، وصوت المروحية اللعينة تقتل خلايا دماغي قبل أن تفعل ذلك بسائر الجسد، أصوات النساء وصريخهن المؤلم، وبكاء الأطفال وذعر الشيوخ، كلها تفاصيل من موتٍ أزرق لا تكاد تسمع عنه شيئاً قط.
لا زلتَ آمناً مطمئناً، تفكر في مستقبلك وتتذمر من يومك لأنك لم تتمكن من الخروج من العمل باكراً، فتلعن المدير وتشتم سائق الحافلة، وتغضب في وجه زوجتك وتصرخ بوجه أطفالك، إذ إن يومك كان سيئاً، لكنني هنا أتمنى لو أني أستطيع أن أكون مكانك، أن آخذ عملاً، وأملك طفلاً، وأحصل على زوجة، وأرى وجه سائق الحافلة مرة أخرى على الأقل.
سائق الحافلة أصابته شظية فمات، لقد كان مرحاً ويحب جميع سكان الحي، كانت حافلته نظيفة على الدوام، وأصوات القرآن ترتجل من مذياعه كل صباح، ومدير عملي مات تحت أنقاض منزله، لقد انتشلوا جثته من تحت الركام، وبقي طفلي داخلاً لم أستطع انتشاله.
ولا أزال حتى يومي هذا ورغم مرور 20 عاماً على تلك الحرب، إلا أن صوت طفلي وهو يبكي خائفاً من صوت المروحية لا يزال ينخر دماغي ويصيبني بالصداع كل ليلة، ولا زلت أتفقد زوجتي ولا أجدها في سريرها فأتذكر أنها كانت على سريرها ترتل القرآن حينما ضربت تلك المروحية حمولتها الثقيلة، ولا زلت أذكر أن القمر حينئذ كان بدراً مكتملاً، ناصعاً في بياضه، لطخته دماء الضحايا فور سقوط القذيفة، واختبأ بعدها وراء الغيوم تجتاحه الخيبة والهوان، يبكي قضيتنا للسحب الشاردة، ويشتكي لربه خذلان النيام، يسخط على مَن سد أذنيه عن صوت الضحايا، ويقصّ للبحر قصة من زوّر الحقيقة، ويشهد للسماء على قاتل سفاح قتل وهرب، ويناشد القبور أن تلعن الجلاد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.