أنا رجل أحمل بكالوريوس علوم عسكرية ومعرفتي باللغة
العربية من خلال دراستي الشخصية لها، فلا أملك تخصصاً فيها، ولكن أجد في نفسي
القدرة على الدفاع عن لغتي، فأنا عربي وهذا من صميم واجبي وقد دفعني إلى كتابة هذا
الموضوع دعوات كثيرة عبر وسائل الإعلام وعبر المؤتمرات واللقاءات التي تهتم بالشأن
اللساني للإنسان ضمن الإطار اللغوي بشكل خاص والتي من خلالها توجه دعوات أو تطرح
آراء لتطوير اللغة العربية، ولا أدري ما المقصود بالتطوير من قبل أصحاب هذه
الدعوات، وهي قائمة على قدم وساق بشكل مستمر ودون توقف.
وبحسب معرفتي القليلة باللغة العربية أعرف أنها لغة
لديها قدرة لسانية هائلة تفرض نفسها بقوة على أن يكون التطور والتقدم العلمي
والتكنولوجي بحاجة إليها، لكي ينهض ويسير إلى الأمام نحو تعليم الناس بمضامينه
وتعريفهم به، وذلك اعتماداً على اختيار الله تعالى لهذه اللغة دون سواها لتكون لغة
آخر كتبه السماوية وهو القرآن فقال سبحانه: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً)، وكذلك
جعلها لغة مناهج آخر رسالاته السماوية رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم).
لذلك فإن الله تعالى أولى اللغة العربية اهتماماً
بالغاً واستثنائياً، وقد أكد على وجوب الاهتمام بها من قبل الناس عبر القرآن في
مواضع عدة، ومنها قوله تعالى: (وهذا لسان عربي مبين) (النحل: 103)، كما أمر نبيه
محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن يبلغ الناس أمور الدين من القرآن والسنة بلسان عربي
مبين، وما ذاك إلا لأن الله سبحانه خصّ هذه اللغة دون سواها من لغات البشر بميزة جعلها
وقفاً عليها.
ووفق هذه الميزة فإن اللغة العربية تمتاز بمرونة فائقة
منقطعة النظير في استيعاب المستجدات لما فيها من الحيوية ووسائل النمو مع التطور
والتقدم الإنساني في ابتكار واختراع واكتشاف أجهزة وعلوم جديدة تحتاج إلى مفردات
لغوية تستوعب أسماءها وتوضح مفردات برامجها وأنظمة عملها، إضافة إلى ترجمة
النظريات العلمية المختلفة وتطبيقاتها العملية على أرض الواقع.
ويدعو البعض من باب الحرص على هذه اللغة والدفاع عنها
إلى إصدار قوانين تحافظ على سلامتها فقد أصدر العراق في عام 1977 (قانون الحفاظ
على سلامة اللغة العربية)، كما أصدرت الجزائر في عام 1991 (قانون تعميم استعمال
اللغة العربية) والدفاع عنها، وينتمي إلى ذلك قولهم إن التشريعات اللغوية ضرورية
جداً للحفاظ على سلامة اللغة العربية وتزويدها بالصمود المطلوب لمواجهة الغزو
اللغوي والثقافي الذي تعتمده الجهات الاستعمارية في هذا العصر تماشياً مع روح عصر
الألفية الثالثة، ألفية ما بعد الحداثة.
ورغم أن الدعوات الموجهة للحفاظ على سلامة اللغة
العربية متأتية من ضمائر أناس يختلج في أعماقهم حبهم لعروبتهم وغيرتهم في الحفاظ
على لغتها وتزويدها بعوامل المنعة والصمود في وجه تيارات الاستئصال اللغوي
والتشويه والتحريف الثقافي، فأنا أطمئنهم إلى أن اللغة العربية قادرة على الصمود
بوجه كافة عوامل التمزيق اللغوي وقادرة على تحدي كافة أشكال الصراع بين الأهواء
والرغبات المنحرفة التي تتآمر حتى على لغة الإنسان وتسعى إلى تدميرها من أجل تدمير
إرثه الحضاري والتاريخي المرتبط بشكل وثيق بلغته الأم.
وطمأنتي لهم أنه لا خوف على اللغة العربية مهما هبت
عليها من رياح معادية، ومهما حاولت أن تعصف بها محاولات الحقد لتجرفها بعيداً عن
محيطها اللغوي والفكري والثقافي العتيد في بنائه الشامخ، فإن جميع هذه المحاولات
ستتحطم على صخرة صمودها التي زوّدها الله سبحانه بها بقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر 9)، وفي هذه الآية القرآنية الكريمة تكمن قدرات
اللغة العربية الخلاقة في الدفاع عن نفسها بقوة خارقة.
وذلك لأن الله أعطاها ميزات لم يعطها لغيرها من اللغات
كما قلت، وبحسب معرفتي البسيطة والضعيفة باللغة العربية التي عرفتها من مدرسي
اللغة العربية في الستينيات الذين كانوا يؤكدون أن اللغة العربية بسبب ما تمتاز به
من صفات خاصة لها قدرة استيعابية واسعة وممكن إجمال هذه الصفات بما تحمل من خواص
بين جنباتها وبشكل مختصر عبر النقاط التالية:
1- خاصية الاشتقاق الأكبر، إذ يقول النحاة إن اللغات كلها تشترك في اشتقاق يسمى الاشتقاق الأصغر، ومنها اللغة العربية، وهو يعني اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول من الصفة المشبه بالفعل، بيد أن اللغة العربية تنفرد عنها بصفة الاشتقاق الأكبر الذي هو اشتقاق عدة كلمات من الكلمة الواحدة عبر وضع حروفها على زوايا شكل هندسي بحسب عددها، فالكلمة من حرفين يوضع كل حرف على طرف من طرفي خط مستقيم وثلاثة حروف على زوايا مثلث، وهكذا دواليك وبالإمكان تبيان ذلك على النحو التالي: كل كلمة عربية من طريق نقل أماكن حروفها أو قراءتها من اتجاهات مختلفة تتولد منه كلمات أخرى مستعملة؛ فلنأخذ أصغر كلمة عربية وهي من حرفين مثلاً (من) نضع حرفيها على طرفي مستقيم هكذا (م ————- ن) فنقرأها من اليمين إلى اليسار تكون (من) ثم نقرأها من اليسار إلى اليمين ستكون (نم)، ولنأخذ كلمة ثلاثية مثل (نعم) ونضع حروفها على زوايا مثل
ن
م
ع
ونقرأ من اليمين حرفين تتولد الكلمات التالية: (نع،
عم، من)، ثلاثة حروف تتولد الكلمات التالية: (نعم، عمن، منع)، ثم نقرأ من اليسار
حرفين: (نم، مع، عن)، نقرأ ثلاثة حروف: (نمع، معن، عنم)، ولنأخذ كلمة رباعية
(طريق)، ونضع حروفها على زوايا مربع مع توصيل قطرية.
ط
ر
ق
ي
ونقرأ من اليمين إلى اليسار (حرفين): (طر، ري، يق،
قط)، ثم نقرأ ثلاثة حروف: (طري، ريق، يقط)، ونقرأ أربعة حروف: (طريق، ريقط، يقطر،
قطري)، ثم نقرأ من اليسار حرفين: (طق، قي، ير، رط)، نقرأ ثلاثة حروف: (طقي، قير،
يرق)، ثم نقرأ أربعة حروف: (طقير، قيرط، يرطق، رطقي)، ثم نقرأ القطرين: (طي، يط،
رق، قر).
وهكذا دواليك بالنسبة للكلمة ذات الخمسة حروف توضع
أحرفها على أطراف شكل هندسي خماسي، وكذلك الكلمة ذات الستة حروف مع توصيل الأقطار،
وكذلك بالنسبة للكلمة السباعية، ولا توجد في اللغة العربية كلمة أكثر من 7 حروف،
وهذه أيضاً من خواص اللغة العربية في المرونة في مجال توفير الوقت وسرعة الكتابة،
فالذي يكتب باللغة العربية جملة معينة يفرغ من كتابتها قبل الذي يكتبها بلغة أخرى.
2- السعة النحوية والصرفية: وأعني بها وجود كافة أشكال الكلمات مثل الحرف والاسم والفعل وكافة أشكال التصريفات إضافة إلى مناحي الألفاظ للدلالة على معانيها، ومن الأمثلة على ذلك فإن اللغة الفارسية لا يوجد فيها مثنى فقوله تعالى على لسان يوسف: (يا صاحبي السجن) تكون بالفارسية (يا أصحاب السجن)، وبذلك خلل نحوي من جهة نوع المخاطب وخلل صرفي بتحويل المثنى إلى جمع تكسير، وبذلك يتغير المعنى التي تحمله الآية بالاتجاه غير المطلوب منها.
3- المرونة والاستيعابية الحرفية: حروف اللغة العربية قادرة على استيعاب الكلمات الأجنبية من ناحية اللفظ وفقاً لطريقة تلك اللغة مثلاً (كار) بالإنكليزية ومن ناحية الترجمة (سيارة)، ومن الطريف والجدير بالذكر أن المجمع اللغوي في القاهرة هو الذي ترجم كلمة كار إلى سيارة وكل العرب يستخدمون هذه الترجمة بيد أن المصريين يقولون (عربية)، وقادرة أيضاً على احتواء أي مستجدات لفظية في جميع العلوم الإنسانية والعلمية البحتة وفي التكنولوجيا مثل موبايل وتلفزيون وشسوار وغيرها كثير، وبالنسبة للموبايل ترجمته الصحيحة للعربية (الهاتف المنقول)، لكن الشائع بين الناس (النقال)، وهو خطأ، فالنقال بالعربية هو الذي يتولى عملية النقل لأنه اسم (فاعل) يقوم مقام الفاعل في تنفيذ الفعل، أما المنقول فهو اسم (مفعول) يقع عليه أثر الفعل فهو في مقام المفعول به.
ومن مرونة اللغة العربية وقدرتها الاستيعابية الحرفية
فيها حروف غير موجودة في جميع لغات العالم، ومن ذلك حرف (ح) ففي الروسية مثلاً
يستعيضون عنه بـ(خ) فمثلاً كلمة (محمود) التي تعني بالعربية وجيه بين الناس لكرم
أخلاقه ونبل طبعه فهي تلفظ بالروسية (مخمود)، وتعني ثابتاً في مكانه لا حياة فيه
ولا حيوية، وفي اللغة الهندية لا يوجد حرف (الزاي) فزينة تكتب وتلفظ بالهندية
(جينة) وأزهار (أجهار).
4- الحصانة اللسانية: وممكن أن نسميها الطاقة النطقية، فاللغة العربية فيها حروف من الصعوبة بمكان على الإنسان غير العربي أن ينطق بها ومنها حرف (الطاء) وحرف (الثاء) وحرف (الضاد) وحرف (الظاء)، وتتدرج في صعوبتها وصولاً إلى حرف (الظاء) الذي يحتاج إلى لسان خلقه الله وزوّده بقدرة لفظ هذا الحرف الذي لو اجتهد غير العربي طوال عمره حتى يتمكن من نطقه بشكله الصحيح لما أفلح، وفي المقابل فإن العربي لديه القدرة على نطق أية كلمة وأي حرف في أية لغة من لغات العالم دون أن يجد صعوبة أو عائقاً. فمثلاً لو أتى غير العربي على قوله تعالى: (فاللهُ خيـرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين) لقرأها (فالله خير حافزاً وهو أرهم الراهمين) فيتغير معنى الآية من قدرة الله على حفظ مخلوقاته ورحمته بهم إلى معنى آخر مختلف، فكلمة حافز عند العرب تعني دعماً تشجيعياً للناس، وارهم الراهمين شيء أكثر مناسبة مع أشياء أخرى دون سواها.
5- عقبة المعرفة الحرفية: ولا توجد هذه العقبة في أية لغة غير العربية وهي خاصة بحرفي (الضاد) و(الطاء) فحتى العرب يجدون صعوبة عند كتابة بعض الكلمات ورسمها هل الحرف المطلوب هو (الضاد) أم (الظاء)؟ والتمييز بينهما سهل بعد التمرينات اللفظية عليهما، فمثلاً عند لفظ كلمة (نابض) يتخذ اللسان وضعية تختلف عنها عند لفظ كلمة (حافظ) ففي كلمة (نابض) فإن الإنسان (ويكون ذلك أكثر وضوحاً عند نطقها ببطء) يشعر بأن لسانه يرتفع ليلامس سطح اللثة ويضرب في الأسنان العليا (الرباعية العليا)، أما في حالة لفظ أو نطق كلمة (حافظ) فإن اللسان يندفع إلى الأمام بشكل مستقيم ويحاول الخروج من فتحة الفم بين الرباعيتين (الأسنان العليا والسفلى)، ولكن لكل قاعدة شواذ فإن أي حرف في كلمة مضافة إلى الكلمة المنتهية بحرف الضاد أو الطاء يفرض نفسه في تغيير أي من الحرفين، فمثلاً كلمة (بيض) تكتب نهايتها بحرف (الضاد، أخت الصاد) فلو قرناها إلى كلمة دجاج وقلنا (بيض الدجاج) فهو استعمال سليم وصحيح، ولكن لو أضفنا إليها كلمة النمل وكتبنا هكذا (بيض النمل) يكون غير صحيح والصحيح هو (بيظ النمل) لأن حرف النون يغير حركة اللســان باتجاه لفظ حرف (الظاء، أخت الطاء).
وختاماً هناك علاقة جدلية بين القرآن واللغة العربية فكلاهما يشكل مؤلاً حصيناً لحفظ الآخر من أيدي التلاعب المغرض وغير النزيه، فكثير من اللغات التي تزامن ظهورها مع ظهور اللغة العربية قد اندثرت واعتراها النسيان، غير أن اللغة العربية بقيت محفوظة بين دفتي كتاب الله، وبالمقابل فإن الكثير من الكتب السماوية اعتراها التشويه والتحريف من طريق التلاعب بالألفاظ باستثناء القرآن لأن اللغة العربية حالت دون ذلك، ومن أقوى طاقاتها على مواجهة الأعداء هو عدم إمكانية ترجمة القرآن إلى أية لغة أخرى بسبب القصور اللفظي لدى هذه اللغات وحاجتها إلى حروف تؤدي بشكل صحيح سلامة نقل معنى الكلمة من العربية إليها. وقد أوردت أمثلة ضمن هذا البحث تغنيني عن الإطالة، ويكفي أن أشير إلى أن الكلمة الإنكليزية (turn) تحمل أكثر من 30 كلمة مع معانيها بمفردها أو على شكل مصطلح؛ لكل منها لفظ (كلمة) تقابلها باللغة العربية، ومثلاً لو أخذنا كلمة أخرى في قوله تعالى: (إنَّما نحنُ مُصلِحُون) (البقرة 11) تأتي بالإنكليزية (we only want to make peace)، فأولاً: 3 كلمات عربية قابلتها 6 كلمات بالإنكليزية، وقد قلت سابقاً إن الكتابة باللغة العربية أسرع من أية لغة أخرى، وثانياً كلمة (peace) الإنكليزية تحمل عدة معانٍ هي: (أمن، طمأنينة، معاهدة صلح، يصمت، وئام، سلام)، ووفق كل معنى من معاني هذه الكلمات من الممكن تفسير الآية على ضوئه، وهذا دليل على ضيق الأفق الكلماتي للغة الإنكليزية وسعته لدى اللغة العربية، إضافة إلى دقتها في طرح المعنى غير القابل للتاويل إلى معاني كلمات أخرى، فكلمة مصلحون العربية بعيد عن معاني كلمة (peace) التي هي الأمن والطمانينة والسلام والوئام وغيرها، من هنا فإن اللغة العربية لا نظير لها في طول حبال مرونتها، ولا نظير لها في عمق حيويتها بين لغات العالم لا قديماً ولا حديثاً، فهي إضافة إلى أنها لغة القرآن فإن الله جعلها لغة أهل الجنة جعلنا الله وإياكم منهم.