في أثناء مروري العابر على بعض محطات التلفاز، وقعت عيناي على مسلسل تدور أحداثه وشخصياته داخل مؤسسة طبية، شاهدت كثيراً من الدراما والمفارقات وتصاعُد في وتيرة الأحداث. لاحقاً لاحظت أن هناك كثيراً من الأعمال الدارمية العربية والأجنبية تجد في هذا المجال مادة خصبة للدراما، باعتبارها عالماً ثرياً مشوقاً وجذاباً، يمكن أن يَنتُج عنه عمل فني ناجح.
أتناقش مع أحد أصدقائي الأطباء حول هذا الأمر، فيخبرني بأن كل هذه الأعمال تنقل الصورة بنوع من السطحية ولا تقترب كثيراً من الواقع الحقيقي، ويبدي تبرمه من سذاجتها. هنا انتابني الغيظ والحنق! على الأقل، هناك من يتحدث عنكم، ينقل بعض معاناتكم، هناك من وجد في عالمكم ما ينقله للمشاهد العادي، الرجل الذي يحتك بك مراراً وتكراراً في عيادتك الخاصة أو المشفى الحكومي. هناك من يدرك طبيعة عملك ويقدّره نوعاً ما.
أما نحن -معشر المهندسين- فعلى النقيض تماماً، لم أجد عملاً درامياً واحداً يتحدث عن عالمنا بشيء من العمق والتفصيل، دائماً ما يظهر المهندس -إن ظهر- رجلاً أنيقاً يجلس على مكتب، وغالباً ما يكون مرتشياً أو يرتدي خوذة جميلة وملابس مهندمة، وفي الخلفية موقع عمل ساذج، متمثل في بعض الأوناش والحفارات وكثير من الرمال.. تخيَّل حنقي بعد أن أرى هذا!
ودائماً ما يحتاجوننا لنكون ركناً أساسياً في أي أغنية وطنية.. تجذبهم صور مواقع العمل، ويلهمهم هدير المحركات وحركة الآلات في المصانع، والصورة الدائمة للعمال بالزي الموحد يتوسطهم مسؤول ما. وأحياناً تتذكرنا بعض المواقع الإلكترونية التي تبحث عن الانتشار، باستبيانات تتغزل في صفات وطبائع المهندسين. وكل هذه نماذج وصور مغلوطة تماماً، ولا تمتُّ إلى عالَمنا وواقعنا الحقيقي كثيراً، باستثناء مبالغات مواقع التواصل الاجتماعي طبعاً.
حسناً.. هذا عالَم غامض مثير وأرض خصبة لم تطأها أقدام الرواة والقصاصين؛ عالَم مليء بالمغامرات والحروب والمؤامرات أكثر من التي يذخر بها مسلسل "حريم السلطان"؛ أكثر قوة وعنفواناً من الليبرتادوريس بالأرجنتين وتكتيكاً من كلاسيكو الأرض في إسبانيا؛ أكثر تأثيراً من موقعة ستالينغراد على قوات دول المحور.. هناك منتصر ومهزوم، هناك انسحاب استراتيجي وهجوم مباغت، وتوزيع للقوات على الجبهات، خطط أساسية وبديلة، خطوط إمداد وتموين، ملحمة متكاملة.
لذا دعوني آخذكم في جولة سريعة هزلية في أعماقه، يراها مَن خارجها مبالَغاً فيها، ويراها مَن داخلها سطحية نوعاً ما.
مع تآكل القطاع العام وضعف الفرص وقلة المرتبات، اتجه كثير من الشباب إلى القطاع الخاص، حيث المشروعات الكبرى والفرص وتدفُّق الأموال وكثير من الجهد والعَرق، لذا سأتحدث عن هذا الجانب من واقع المهندسين.
بادئ الأمر، هيئة حكومية أو مستثمر أجنبي أو شركة عملاقة تسعى إلى التوسع في محطة طاقة أو مصنع أسمنت أو حديد، ربما مدينة صناعية أو سكنية جديدة أو منصة حفر… إلى آخره، وهنا يظهر المالك صاحب اليد الطولى والكلمة العليا: ناس ذو ملابس منمَّقة وسيارات فارهة؛ مكاتب مكيفة بعيدة نسبياً عن موقع العمل بصخبه وغباره، لهم الحق في دخول أي مكان بموقع العمل، وهُم غالباً من يظهرون بالإعلانات التلفزيونية في نهاية المشروع.
المالك يجلب استشارياً كبيراً.. شركة عالمية متخصصة في هذا المجال، وهنا مركز الثقل الحقيقي؛ الاستشاري الذي يشرف على الأعمال وله حق القبول والرفض والتعديل، ولكنه أيضاً تحت وطأة المالك صاحب الأموال، لا يقوم بالتنفيذ بنفسه إلا في أضيق الحدود، ويلجأ إلى مقاول رئيسي أو عدة مقاولين، وهنا يأتي دور الشركات المحلية العملاقة، مقاول للأعمال المدنية وآخر للميكانيكية والكهربية وهكذا.
تفاصيل العمل كثيرة وتتطلب شركات أكثر تخصصاً، فيُسنِد المقاول الرئيسي بعض الأعمال إلى شركات محلية متخصصة، غالباً ما تتكون السلسلة في أي مشروع من أربع أو خمس حلقات، وقد تصل إلى ما هو أكثر من ذلك. منظومة هيراريكية تراتبية متكاملة، لا داعي لأن أخبرك بأنه كلما تقل في الدرجة يزداد الأمر سوءاً من كل الجوانب وتزداد الضغوط.
هناك قصة متداولة لمهندس جديد في آخر الحلقة، تجاوَز وتحدَّث مع الاستشاري الأول مباشرةً، فرفض أن يتحدث معه ووبَّخه واتهمه بالوقاحة، لتجاوزه الترتيب! كذلك طُرِد واحد من مديريّ من أحد الاجتماعات، لتكراره التجاوز وعدم احترام تراتبية المراسلات.. تخيَّل -يا صديقي- أنك في آخر السلسلة بالحلقة الأضعف منها، لا بد لمعظمنا من المرور بها يوماً، فلتسأل أن يكون مروراً خفيفاً.
في كل واحدة من حلقات السلسلة (مالك-استشاري-مقاول رئيسي-مقاول باطن)، مجموعة من الإدارات المتداخلة المتضاربة المتنازعة، هل تشعر بالتوهان أو الملل؟! أرجوك، انتظر قليلاً؛ فالقصة في أولها، نبدأ بمن؟ دعونا نبدأ بإدارة السلامة والصحة المهنية، وهُم المسؤولون عن التأكد من توافر مسبِّبات السلامة في كل خطوة من خطوات المشروع.
الأمر من ظاهره جيد، ولا بد من توافر الحد الأدنى -وأحياناً الأقصى- من المقومات طبقاً لظروف العمل، وإلا حدثت كوارث لا قدر الله. ولكن من الداخل، حدِّث ولا حرج، يصل الأمر إلى مراحل متقدمة من التحكم وحُبّ السيطرة وفرض النفوذ وسن القوانين واستعراض العضلات وتعطيل الأعمال، يمكنه توجيه الإنذار تلو الآخر إلى أي فرد حتى ينتهي الأمر بالاستبعاد من موقع العمل، في بعض الدول لديهم حق الضبطية القضائية.
يمكنك أن ترى داخل مسؤول الصحة والسلامة بذرة ضابط فشل في الالتحاق بالشرطة أو الجيش ويحاول استعادة حلمه القديم بموقع العمل ويفجّر مواهبه المكبوتة، من يردعهم؟! دعني أُخبرك، نظرة واحدة من كبير مسؤولي المهندسين التنفيذيين كافية -في أغلب الأحيان- لوقف توغلهم، والحد من سلطتهم، وكبح جماح تقدمهم.
من هم مهندسو التنفيذ؟ هم المسؤولون عن تطبيق ما هو موجود في الخرائط والمخططات وتحويله إلى واقع ملموس، هم عصب العمل والحلقة التي يدور الجميع حولها؛ لنا معهم وقفة في نهاية الأمر.
في الأفق يلوح العدو الأول لهم – وغالباً ما يعتقد مهندس التنفيذ أن الجميع أعداؤه- وهم مهندسو الجودة، وهم من يتأكدون من تنفيذ الأمور بالطريقة الصحيحة والمطابقة للمواصفات، لا يشغلهم كثيراً كَمُّ الجهد والتعب المبذول في التنفيذ ولا أي عوامل خارجية، هل تعرف هذا الطالب المجتهد ذا الملابس المنمقة والكراسة النظيفة والصفحات المسطرة الذي يطلب من المدرس أن يستغل الحصة الفارغة في شرح دروس العلوم بدلاً من أن نقضيها في حوش المدرسة.. هل تعرفه؟ لقد أصبح مهندسَ الجودة حينما تخرج في الجامعة، يملكون دائماً الحق في رفض الأعمال، وينغّصون على مهندسي التنفيذ أيامهم، دائماً ما يبتسمون في البداية، ولكن من يردعهم ويجبرهم على قبول الأعمال ويمتلك القدرة على الجدال ومقارعة الحُجة بالحُجة؟!
هنا يظهر من بعيد "مهندس الدعم الفني "، لا يبدو عليه وعثاء الموقع وغباره، يدقق في التفاصيل، ويفصّل في الأمور، ويجلّي ما خَفي عن الآخرين؛ يراقب الجميع ويقدم التقارير ويمسك بالخيوط في يده، يمكنك أن تعتبره الصندوق الأسود، ولكنه لا يزال الأخ الأصغر، رغم كل أهميته ودقة موقعه فإنه يتحول أحياناً إلى عروس ماريونيت يمسك بخيوطها الأخ الأكبر.. أراك تتشوق إلى معرفة ماهية الأخ الأكبر.
حسناً.. هو مزيج بين مهندسي التخطيط ومهندسي التعاقدات والإدارة العليا للشركة، هُم أصحاب نظرة الطائر المحلّق، من يختارون أرض المعركة، قريبون دائماً من دوائر صنع القرار، وأحياناً هم من يصنعون القرار، يضعون الخطط والاستراتيجيات، لتفشل فيلجأ إلى الخطة البديلة التي تفشل أيضاً! وهكذا حتى يملوا من وضع الخطط، وقتها.. وقتها فقط، تتم الأمور ويُكتب للمشروع النجاح.
هناك عدد من الإدارات الجانبية التكميلية كالحسابات، لا تراهم غالباً إلا مرة أو اثنتين في الشهر.. غامضون، قليلو الكلام، ذوو سترات داكنة.. لا تدرك كيف يعملون ويصبحون سلعة نادرة وقت تلقي الرواتب.
هناك أيضاً أمن الموقع وحرّاس البوابات، يظنون أنهم حراس الجدار الذي سيمنع المتجولين البيض من الدخول إلى ويسترس حينما يحل الشتاء.. دائماً ما نراوغهم حينما تنتهي صلاحية بطاقة الدخول، أو في محاولة إدخال بعض العِدد والأدوات البسيطة خلسةً، أو إخراج مُعِدة للإصلاح والعودة وهكذا، ولكنه موقع حساس جداً. أذكر أنه في أحد المواقع، نتيجة صلَف وجلَف وتعنُّت عمال البوابات، أدى الأمر إلى ثورة بين العمال، وكنا في منطقة بدوية؛ فحدث شجار هائل بالأسلحة والبنادق الآلية، ووقع ضحايا نتيجة هذا الأمر، وتم إغلاق الموقع فترة ثم العودة بنظام جديد بعد استبدال شركة الأمن القديمة بأخرى أكثر احترافية.
توجد هذه الإدارات في كل حلقة من السلسلة، وتتواصل معاً لتجد نفسك أمام عدد هائل من الإدارات، تحاول أن تفرض سيطرتها وهيمنتها بعضها على بعض وعلى الشركات المجاورة والحلقات الأضعف منها في السلسلة، متسلحةً كل منها بحجم أعمالها في المشروع وعدد مُعداتها وعمالها الذين يقدَّرون بالمئات لكل شركة، وثقل أسماء المهندسين وقوة إداراتها المختلفة. قد تجد أكثر من شركة تعمل في منطقة لا تتعدى عشرة أمتار يعملون على التوازي والتوالي، لا بد من حدوث أخطاء ويُلقي كل منهم باللوم على الآخر، يسعى كل منهم إلى الخروج بأقل الخسائر، يوطد علاقته ويرسخها بالأقوى ويُرهب من هم أضعف منه، يزج بعماله ومعداته في مناطق الصراع وينسحب من الجبهات الهادئة، ملحمة حقيقية يا صديقي!
في القلب من هذه الأحداث، يأتي دور مهندس التنفيذ، وهو شخص يومه عبارة عن سلسلة من المشاكل التي لا تنتهي، محاولاً البحث لها عن حلول، يتخذ قدراً هائلاً من القرارات، قاموسه مليء بكلمات من عينة "الله ينور يا رجالة- شدوا حيلكوا شوية- الشغل ده مش نافع- عندك نصف يوم خصم…"، وجيبه مليء دائماً بأوراق نقدية من فئة العشرين والخمسين كإكراميات.. جواله مليء بأسماء تنتهي بألقاب كـ "اللحام- السواق- النجار…"، نادراً ما تجد اسماً لا تتبعه صفة أو هيئة اللهم إلا زوجته، وإن كنت أشك في هذا أيضاً، بريده مكتظ بالرسائل دائماً، يتعرض للضغط على طول الخط، تنظر إليه عائلته ومَن حوله كسوبر مان.. الرجل الذي يجيد التعامل مع الأشياء أياً كان كُنهها، وأنا لا ألومهم؛ فهم من يتخبطون حينما يتلف صنبور المياه.
يمتلك المهندس عدة أعوان، بداية بكبير المراقبين وهو فني تدرج في المناصب حتى وصل إلى هذه المكانة، غالباً ما تدور بينهما بعض الصراعات في البداية، فهذا المهندس الشاب حديث السن، يظن أنه يدرك كل شيء لمجرد أنه درس بعض العلوم في الكلية، ما أدراه هذا عن سوق العمل؟! وأين هو من خبرتي وسنوات عملي؟! لا بد من أن يُظهر مزيداً من التقدير، على الجانب الآخر تجد المهندس الذي قضى سبعة عشر عاماً على الأقل في مراحل التعليم المختلفة وظل يحشو رأسه بالمعلومات، وفي النهاية يحاول الآخر أن يستعرض ما يملكه من خبرات عليه، أين هو من علمي ودراستي؟! هناك دائماً حرب باردة، وشعرة معاوية يمسك كلاهما بطرفها.
بعد ذلك يأتي دور مشرفي المجموعات، ويندرج تحتهم الفنيون، وفي النهاية العمال العاديون -الحرافيش- دائماً تحت السيطرة، ولكن حذاري من ثورتهم، فكم من مرة حطموا مباني الإدارة! ليس لديهم ما يخسرونه، أذكر أننا حوصرنا أكثر من مرة في المكتب، لتأخر الرواتب، ولكن سرعان ما تعود الأمور تحت السيطرة، هذا بالإضافة إلى سائقي السيارات والمعدات وعمال المخازن وغيره. يستخدم المهندس كل الأساليب والطرق، يصنع الدسائس ويتخذ الأعوان ويطلق الشائعات؛ في محاولة للسيطرة على هذه المنظومة، ويشن الغارات على الشركات والمنافسين الآخرين.
تجده في المنتصف تماماً بمشرفيه وعمّاله ومعداته، محاطاً بمهندسي الجودة، يتصيّدون أخطاءه؛ ورجال الصحة والسلامة ذوي الخوذات الحمراء، يعرقلون تقدُّمه؛ ويسأله المكتب الفني دائماً عن مدى تقدم الأعمال؛ وتُحَمّله الإدارة مسؤولية أي خطأ أو تقصير؛ يماطله المحاسب في تسلُّم راتبه. ولكنه يظل عمود الخيمة وحجر الأساس، يعود فينتقم، وحين يأتي وقته لا يرحم أحداً.. حينما يكتشف الجميع أنهم بذلوا كثيراً من الوقت وأنفقوا كثيراً من الأموال.. ولا بد من أن ينتهي هذا الأمر.. يحين أوانه ويكون انتقامه مريعاً.
في النهاية.. تسألني: لماذا أتهكم ويرتفع ضغطي إلى أعلى معدلاته على صورة المهندس حينما يظهر في إعلان أو مسلسل تلفزيوني؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.