منذ أربعة أعوام، أصدرت محكمة دائرة خاصة في مصر حكماً بحقي إضافة إلى 36 آخرين بالسجن المؤبد في سجن شديد الحراسة بتهم تتعلق بالعمل الصحفيّ. وقبلها بشهر واحد، حكم القاضي نفسه على والدي و13 آخرين –من بينهم صحفي– بالإعدام لإدانتهم بتهم ملفقة مماثلة. وقبلت محكمة النقض الاستئناف بعد سنة، وخففت الأحكام. لن تتحقق العدالة الكاملة، ولكن النظام القضائي على الأقل لم يستسلم كلياً لاسترضاء المطالب السياسية للمرحلة. قضيت 22 شهراً مروعة في السجن، بينما لا يزال والدي مسجوناً حتى الآن. وبالرغم من كل ذلك، أجد نفسي اليوم في موقف غريب، منادياً بالحفاظ على ما تبقى من استقلالية النظام القضائي في مصر.
استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالأمس نظيره المصري، عبدالفتاح السيسي، في ثاني زيارة رسمية له للبيت الأبيض. تولّى السيسي السلطة في عام 2013 عن طريق انقلاب عسكري صعد على أكتاف الاحتجاجات الشعبية ضد الرئيس المنتخب، محمد مرسي. ومن حينها، سعى السيسي لترسيخ سلطته باستخدام القوة الوحشية في مواجهة العصيان المدني. ونتيجة لذلك، يعيش المصريون اليوم في ظل مستويات غير مسبوقة من القمع والاستبداد.
تأتي زيارة السيسي للبيت الأبيض في إطار جهود جديدة لتعزيز سلطته. هذا العام، اقترح "برلمان السيسي" إجراء تعديلات على دستور 2014 تهدف إلى تحويل نظام حكمه من الاستبدادية الوحشية إلى الشمولية الكاملة. وقد أثارت تعديلات مشابهة تاريخياً غضباً شعبياً ودفعت البلاد نحو حالة من عدم الاستقرار. تسمح التعديلات المقترحة بزيادة سنوات فترة الرئاسة، مما يسمح للسيسي بالبقاء في السلطة حتى عام 2034. مع تعديل آخر يمنح الجيش صلاحيات أكبر على الدستور والديمقراطية في البلد. وتتضمن التعديلات الأخرى توسيع صلاحيات السلطات التنفيذية على النظام القضائي المسيّس بالفعل.
تمنح التعديلات على قانون السلطة القضائية للسيسي سلطة تعيين رؤساء الهيئات القضائية الثلاث؛ المحكمة الدستورية العليا، ومحكمة النقض، ومجلس الدولة. وقد حافظت تلك الهيئات، على مر تاريخها، على تقليد الأقدمية في تعيين رؤسائها. كما ستمنح التعديلات للسيسي سلطة على ميزانيات الهيئات القضائية. هذه التغيرات ليست مجرد نزاعات بيروقراطية؛ هذا النوع من السلطة من شأنه أن يمنح السيسي فرصة مكافأة القضاة المتعاطفين معه من خلال أحكامهم، ومعاقبة القضاة الملتزمين بسيادة القانون.
في العام الماضي، شاركت في كتابة عمود رأي عن جهود السيسي لتبديد نظامه. ولم يقتصر هذا النهج على إطاحة القادة العسكريين ومسؤولين رفيعي المستوى، ليشمل الآن القضاة ورؤساء الهيئات القضائية. ويخطو السيسي بفعالية نحو تجريد مؤسسات الدولة من أي تهديد محتمل لحكمه. وقد أدّى التحول الكبير في القيادة داخل الجيش وجهاز المخابرات، الذي كان في وقت ما يتمتع بالقوة، إلى خلق ثقافة الولاء المؤسسي للسيسي، وربط مراكز القوة في البلاد برجل واحد.
لكن السلطة القضائية، التي تعتبر ذراعاً للحكومة على قدم المساواة نفسه دستورياً مع السلطة التنفيذية، فقد كان هناك حاجة إلى إخضاعها بطريقة منهجية ودقيقة، ولكنها لن تستسلم دون قتال.
تنحّى عشرات القضاة عن النظر في القضايا المتراكمة ضد عشرات الآلاف من المسجونين السياسيين عقب حملات القمع الوحشية في 2013. مما أجبر النظام على إنشاء دائرة محاكم خاصة، يرأسها الموالون للنظام، لمقاضاة المعارضة السياسية. وفي قضيتي، صدّقت محكمة النقض على الاستئناف الذي تقدمت به وأسقطت حكم السجن المؤبد الصادر عن إحدى تلك المحاكم الخاصة الموالية للنظام. وبالطريقة نفسها قاومت السلطة القضائية ورفضت آلاف القضايا الأخرى.
ورداً على هذه المقاومة الخفية، عيّن السيسي شقيقه، أحمد، نائباً لمحكمة النقض. وخلال فترة وجيزة، رُفض كل استئناف مقدّم من السجناء السياسيين، وجرى التصديق على الأحكام وباتت نهائية واجبة النفاذ. وتمثل الزيادة في عمليات الإعدام برهاناً قاسياً على التحول الذي تشهده محكمة النقض.
وواصل القضاء تحدي النظام. إذ سعى السيسي إلى تسليم جزيرتي تيران وصنافير المتنازع عليهما للمملكة العربية السعودية. لكنَّ مجلس الدولة تحدى قرار الحكومة بتسليم الجزيرتين، وأكَّد، على أسس قانونية، أنهما ينبغي أن يبقيا تحت السيطرة المصرية. فكانت النتيجة أنَّ يحيى الدكروري، القاضي الذي أصدر الحكم، حُرِم من الترقية وأُرغم على التقاعد المبكر. ثم ضغط السيسي على المحكمة الدستورية العليا للنظر في القضية والحكم لمصلحته.
ثم رفض القضاء علناً التعديلات المقترحة على الدستور من خلال مذكرةٍ صدرت عن نادي قضاة مجلس الدولة. إذ أدانت المذكرة، التي نُشرت في 29 مارس/آذار، التعديلات الدستورية المقترحة، مشيرةً إلى أنَّها "تقضي على ما تبقى للقضاء من استقلال، وتحيله.. مرفقاً تديره السلطة التنفيذية".
وحتى في أحلك فترات دكتاتورية الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك التي استمرت 30 عاماً، لم يشهد المصريون مستوى انتهاك السلطات القضائية الذي شهدناه مع السيسي. ووسط تجدُّد الدعوات إلى الديمقراطية وتقرير المصير في دولٍ مجاورة مثل الجزائر والسودان، يصبح مسار مصر أخطر وأكثر إثارةً للقلق على نحوٍ متزايد.
فبصفتي سجيناً سياسياً سابقاً، وجدت أنَّ نظام المحاكم فاسدٌ ومُشترِك في تضييق الخناق على المعارضة السياسية وتقييد الحريات الشخصية. وخلال فترة سجني، لم أتصوَّر قط أنني سأسلط الضوء يوماً ما على أهمية الحفاظ على استقلال هذا النظام. لكن حتى شخص مثلي، عانى على يد قضاة عديمي الشرف والمبادئ، يمكنه أن يدرك أهمية الحفاظ على أي قدرٍ ضئيل من الاستقلال الذي تتمتع به المحاكم. فالمخاطر مرتفعة للغاية.
ولذلك، فبدلاً من احتضان ديكتاتور بحرارةٍ في المكتب البيضاوي، يجب على إدارة ترامب إدراك أنَّ السماح بانتهاك آخر مظاهر الفصل بين السلطة والمؤسسات في دولةٍ مهمة للغاية للاستقرار الإقليمي يبعث برسائل خاطئة للآخرين. فدعم الولايات المتحدة للسيسي وتعديلاته لا يتناقض مباشرةً مع القيم الديمقراطية الأمريكية فحسب، بل سيُهدِّد مصالحنا الاستراتيجية في جزءٍ مضطرب بالفعل من العالم.
إننا نقف متفرجين ونحن نشاهد المبادئ الأساسية للديمقراطية تتآكل في أمةٍ نعتبرها حليفة وشريكة. وبالتأكيد لا يمكننا أن نمنع دق المسمار الأخير في النعش بينما يواصل السيسي الطرق عليه بشدة.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.