ما زالت أزمة ما بات يعرف بـ "البريكست" أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تُلقي بظلالها لتلقي بذلك مزيداً من الضبابية على المشهد البريطاني بشكل خاص، والأوروبي بشكل عام، حيث جاءت كنتيجة لتصويت أغلبية بسيطة من البريطانيين لصالح مغادرة سفينة الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي تم تنظيمه سنة 2016 مُنهيةً بذلك عضوية دامت لأكثر من أربعين عاماً.
غير أن مسألة الإنهاء قد لا تكون بتلك البساطة التي تبدو عليها أو ربما كان يتصورها الناخبون البريطانيون حينها، حيث ما زال الخلاف محتدماً حول التبعات المترتبة عن ذلك وتفاصيل اتفاق الخروج؛ إن على مستوى مستقبل العلاقة مع الشركاء الأوروبيين أو تفاعلات ذلك على مستوى الداخل البريطاني، لا سيما بين رئيسة الوزراء "تيريزا ماي" التي لا تتوانى عن التهديد بالاستقالة في حالة عدم تبنِّي خطتها حول الانسحاب من جهة، وباقي مكونات الكتل السياسية، بما في ذلك حزب المحافظين المنقسم على نفسه هو الآخر، ومجلس اللوردات من جهة أخرى، والداعية إلى ضرورة العمل على إيجاد صيغة مشتركة لاتفاق المغادرة الذي من المفترض أن يدخل حيز التنفيذ يوم 12 أبريل/نيسان الجاري.
هذا الخلاف المحتدم، والذي ذهب إلى حد تصويت مجلس العموم البريطاني وللمرة الثالثة لصالح إفشال خطة "تيريزا ماي" للانسحاب، بل تعداه إلى التلويح بالبدء بإجراءات حجب الثقة عن رئيسة الوزراء أو الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، ناهيك عن طرح شروط جديدة ومطالب بضرورة القيام باستفتاء توكيدي ثانٍ حول البريكست، الشيء الذي يرفع من حدة السجال الداخلي حول الموضوع؛ ليجعل بذلك المشهد مفتوحاً على العديد من السيناريوهات، من بينها البقاء في السوق الأوروبية الموحدة أو الخروج من دون اتفاق، أو تمديد التأجيل إلى أمد قد يكون طويلاً حتى الوصول إلى حل توافقي بين الطرفين الأوروبي والبريطاني.
يأتي كل ذلك في سياق أجواء من الترقب تسود أيضاً الفضاء الأوروبي؛ حيث اعتبر كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي لشؤون البريكست "ميشيل بارنييه" بأن عملية خروج بريطانيا من الاتحاد لها عواقب وتبعات وعلى لندن تحمُّلها، بينما دعا رئيس المجلس الأوروبي "دونالد توسك"، عقب تصويت مجلس العموم البريطاني المفضي إلى رفض خطة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، إلى عقد قمة أوروبية استثنائية يوم 10 أبريل/نيسان الجاري، أما الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" فقد قال للصحفيين، بحسب وكالة رويترز، إن أوروبا لا ينبغي أن تبقى رهينة لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الحالية، كما دعا إلى الوحدة داخل أوروبا، وهو الحزم ذاته الذي عبَّر عنه غير ما مرة العديد من أقطاب الاتحاد الأوروبي في محاولة على ما يبدو لحماية المشروع الأوروبي وتلافي انفراط عقده.
مما لا شك فيه أن عملية البريكست المتعثرة قد تجعل من مآلات ملفات كثيرة محاطة بكثير من الغموض، ومن أهمها تسديد الفاتورة النهائية للخروج التي ينبغي على دافعي الضرائب البريطانيين دفعها؛ حيث تقدَّر بحسب حكومة لندن بنحو 39 مليار جنيه إسترليني، والفترة الانتقالية للخروج وحماية حقوق المواطنين والعلاقة مع إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي والعلاقة مع جبل طارق الخاضعة للسيادة البريطانية وإسبانيا والقواعد العسكرية البريطانية في قبرص وفض النزاعات ذات الطابع التجاري وحقوق الملكية الفكرية وغيرها من الملفات.
فإذا كانت الرغبة الجامحة لفئات واسعة من النخب السياسية وشرائح غير قليلة من الشعب البريطاني في خروج بلدهم من الاتحاد الأوروبي لا تخلو من حنين واعتزاز بالتاريخ البريطاني بالنظر إلى الرصيد التاريخي الهائل لبريطانيا والثقل الاقتصادي الذي تحظى به باعتبارها كخامس قوة اقتصادية في العالم، ينضاف إلى ذلك العلاقة الخاصة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن مسألة البريكست قد تكون في الآن ذاته كمن يدق جرس إنذار بالنسبة لباقي أقطاب الاتحاد الأوروبي؛ حيث يُنظر إليها من قِبل البعض الآخر كمسألة مصيرية بالنسبة للمشروع الأوروبي برمَّته الذي استثمروا فيه الشيء الكثير، وبالتالي ينبغي العمل وبكافة الوسائل الممكنة على حمايته، وضمان ألا تتمدد فكرة المغادرة لتطال في وقت لاحق دولاً أخرى، مهددة بذلك "لا قدر الله" بوضع حد لحلم ظلَّ وإلى غاية منتصف القرن الماضي ضرباً من المستحيل بالنظر إلى الصراعات الحادة والتناقضات التي لطالما شابت مكوناته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.