في إحدى يومياتي أصحو من النوم؛ أستنشق عبير اليوم الجديد، آكل وأشرب وأستحم، وأخرج من مسكني، لأبدأ عراك الحياة من جديد وفي يوم جديد.. في مكتبي، هنا العمل، وهناك الواجبات، وفي البعيد هناك الأوامر، والجلسات والأعمال الكثيرة المتراكمة، فيتراكم عليَّ ساعة بعد أخرى، لأجد بعض الاستراحات في أوقات الصلوات، أو الفراغ العرضي لأجدد نشاطي من جديد، وأسترجع بعض حيويتي التي ضاعت بين ثنايا هذا المكتب.
وفي المساء ينتهي دوام العمل، وأتجه حيث أقطن فيه، لأخفف عن نفسي عبء العمل وثقله، فأستريح قليلاً، ثم أبحث عن متنفَّس غير الذي كان معي في صباح اليوم، وأتجه نحو الحدائق ومجالس المدينة، لأستجمع قواي وأتذوق الهدوء والسكينة، وأتعامل مع الإنسان كإنسان وليس كآلة عمل وأوامر ونواهٍ كما هو في مكتبي.. فأسرح وأمرح وأضحك، وأتلقى جرعات من السرور ومشاعر جميلة لا توصف، وأصحابي خير جليس لي في هذه المجالس.
ويتكرر هذا في اليوم وغداً وبعد غد، وتستمر الدوامة ولا تنتهي، إلا أن يتحول الكل إلى شيء مزعج، فلا أستطيع أن أفرق بين روتين العمل أو رديفه "أي التنزه والاستراحة المسائية"، فأبدأ بالتيه والملل، ثم يضيق أفقي، ولا أقوى على الصبر، ولا أجد علاجاً لهذا… فأسأل نفسي: ماذا تسمي نفسك؟ هل أنت تعاني فراغاً حيث الجدول متراصّ بعضه فوق بعض؟ إذاً، هل هي بطالة حيث لا بطالة في حياتك؟!
أسئلة تراودني صباح مساء، ولا أجد لها جواباً، إلى أن بدأت أدخل في عوالم لم أجربها من قبل، وجدت فيها نفسي، وتلقيت فيها علاجي، ولم أعد أعاني ذلك المرض الذي نهشني وأقعدني.. إنه هو..
في إحدى الأمسيات، وكالعادة مع الأصدقاء، وقع في يدي كتاب من أحد رفقائي، وكان موضوعه جذاباً، وقلَّبت صفحاته ومن دون مبالاة، ولم أعر ما يحويه أيَّ انتباهٍ، ولكني قررت أن أستعيره لكي أحاول قراءته ولو جزءاً من صفحاته.. لم أتمكن من النظر فيه حتى، ولم تمسكه يداي فترة طويلة، حتى كدت أنساه.
وفي أحد الأيام كنت شارد الذهن، أعاني بطالة لم أفهم نوعها، بادرت بالنظر فيه حيث غطاه الغبار؛ بطول غيابي عنه، وبدأت القراءة فيه، وألحَّت على نفسي قراءته بعد ذلك. وبعد شدة وتعب، وقراءة وتوقف، وتكاسل أنهيته والحمد لله.
ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، وذلك لأن انتهائي من قراءة الكتاب كان بادرة مباركة، فتحت لي الآفاق وأعطت لنفسي في عالم القراءة رونقاً من نوع جديد، فبدأت أحب القراءة، ليس لأنها نافعة، وإنما وجدت فيها ما كنت أفتقده فترات طويلة.
وجدت في عالم القراءة الصديق الصدوق، الذي لا يفارقني مهما طال الزمان، فهو صار لي مثل أنيس يخفف عني هول العالم مِن حولي، فأعطاني كذلك عملاً لا أملُّ منه، حيث لا أوامر ولا نواهي، فقط عطاء ثم عطاء ثم عطاء.. ولم أحس بملل سوى تعب طفيف، والذي لا يقاربه أي تعب من أتعاب غيره من الأعمال.
العطالة التي كنت أعانيها كانت العطالة عن عمل القراءة، والغياب عن هذا العالم الفسيح، والقائم بذاته، بحيث تنتقل إليه وبكل مشاعرك، ولم تعد تحس بالذي كنت فيه جسمانياً، إنه عمل لكل إنسان سواء كان موظف مكتب أو غيره.. فكم من عمال يتعبون في ليلهم ونهارهم بمكاتب عمل ويرهقون أنفسهم، وما زالوا يحسون بفراغ! وكم منهم من لا عمل له ولا وظائف، وقد ملأوا أوقاتهم بهذا العمل، فلم يعودوا يحسون أو ينشغلون بالبطالة التي نعرفها، ثم بعدها جمعوا علوماً ومعارف، ووجدوا خبرات لم يكونوا باستطاعتهم جمعها لو قضوا حياتهم في سفر وترحال!
والآن لم أعد أعيش في بطالة، وأيقنت أن البطالة الحقيقية هي الغياب والفراغ عن هذا العالم، الذي لا نقدره قدره، ولا نعطيه حقه الذي يستحق، وإن كنت أعتبر نفسي مبالِغاً في ذلك، إلا أنني أستطيع القول إن العطالة التي نعرفها لم تكن لتكون لو تخلّصنا من عطالة القراءة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.