من منَّا لم يسمع بقول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما طالب القضاةُ بالمساواة مع المعلمين، "كيف أساويكم بمن علموكم"، كان هذا رداً صارماً، ودرساً أخلاقياً لقنته ميركل للعالم حول قيمة المعلم، هذا الحدث تناقلته صفحات فيسبوك وأُعجِب به الكل، وتمت مشاركته على كثير من الحسابات الخاصة، هذا ليس بجيد على بلد كألمانيا، التي أنجبت فلاسفة عظاماً كهيغل وهوسل وهيدغر الذين خلدهم تاريخ الفكر الفلسفي خاصة والفكر الإنساني عامة.
قد يجيبني أحد هنا أننا دائماً نستدل بالحضارة الغربية ونترك حضارتنا الإسلامية العربية، نعم نحن كذلك نقدس مكانة العلم والمعلم، فقد جاء في حديث للرسول عليه الصلاة والسلام "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" (رواه الترمذي وصححه الألباني)، وأهم ما قاله السلف الصالح كذلك "من علمك حرفاً فهو سيدك يوم القيامة".
نعم ثقافتنا زاخرة بكل هذه الأدبيات حول مكانة المعلم السامية، إلا أنها صالحة للحفظ فقط بعد انتهاء الدرس في الكورسات، وصالحة لنقشها على الجدران الحائطية، أذكر أن مدرستي الابتدائية كُتِب على حائطها بخط أسود عريض البيت الشعري الراسخ الذي لطالما رددناه في الصغر لأحمد شوقي، قم للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا" كنت أقرأه عند الدخول للمدرسة وأثناء الخروخ، حتى اعتقدت أن مكانة المعلم في بلدي بكل ذلك السمو والتي جعلته يرسخ في الجدران قبل الأذهان.
نعم مكانة المعلم في بلدي تُكتب على الجدران، تُغنى في الأناشيد المدرسية، تُلقى كمحفوظات في المقررات الدراسية، لكنها أبداً لا تُجسد على أرض الواقع بمقدار حبة خردل.
حفظنا، ورددنا، وغنينا، كل الأناشيد والأبيات الشعرية التي تمجد وتبجل مكانة المعلم، وبسذاجة حلم الطفولة رغبنا فيها كمهنة ومهمة، لنتذوق وهم القيم التي حفظناها، ونستلذ هَمّها وغمها.
في بلدي فقط يعامل المعلم وكأنه لاجئ من بلد آخر أرغمته الحرب في بلده على الفرار إلى بلد آخر، لنعيش فعلاً أجواء الحرب من ضرب وحوادث دامية وفرار من الشرطة خوفاً من الاعتقال، كل هذا لأننا ننادي بالعدالة الانسانية، مبتغين الاشتغال بكرامة إنسان قبل قيمة معلم أو أستاذ.
نعم، في بلدي المغرب المعلم هو الشخص الوحيد الذي يشكل عبئاً ثقيلاً على ميزانية الدولة الفقيرة كما يدعون، لأنه يشتغل في البراري الخاوية وفي أعالي الجبال وسط الثلوج الكثيفة فيصبح عاملاً في قسمه طبيباً لطلابه معيناً لهم ثم معلماً كذلك، في بلدي ينعم سياسي الدولة بتقاعد ماتع ومانع لأصغر شوكة قد تصيب غناه المفرط، تقاعد سمين لهم مقابل تعاقد مهين لنا.
في بلدي يشتغل المعلم بعقود فرضتها الدولة على شبابها البائس الذي ينتظر أدنى قشة يستنجد بها للنجاة من الغرق في قبضة الفقر والتهميش، عقود هشة قد ينهيها مدير أكاديمية تعليمية أو مؤسسة حتى ذات صباح لأنه مستاء من كون زوجته اكتشفت خيانته المشروعة، حتى أنها عقود أبرمت مع معلمين وأساتذة لا تتأسس على أي سند قانوني، فبدل أن يصدر مرسوم واضح خاص بهيئة المستخدمين في الأكاديميات لجأت الوزارة إلى حيلة المقرر المشترك.
عقود كل ما يمكن أن يقال عنها أنها عقود إذعان وهذا واضح بشكل فاضح. كل هذا ليس طمعاً في تحسين جودة التعليم في وطننا الحبيب كما يدعون، أو لأنه خيار استراتيجي مبتغى، كما يكررون ذلك في جملهم الرنانة كلّما ذُهل الشعب من كمِّ وكيفِ العنف الممارس على خيرة شباب الوطن وطالبهم باستفسار واضح. لذلك لا تختبئوا وراء كلمات مزركشة وعبارات منمقة لتبرير أن غايتكم الأولى هي بيع التعليم العمومي وخوصصة ما تبقى من الوعي لدى أبناء الشعب المغربي المغلوب على أمره. تعاقدكم هذا، ورغبتكم في رفع الدولة أيديها عن إعانة التعليم العمومي ما هو إلا تعبير صريح على رغبتكم في تقديم المدارس على طبق من ذهب لافتراس السوق وتوحشه مستقبلاً.
ولأنها أصبحت قضية شعب وليست قضية معلم أهينت كرامته فقط، فإننا لن نتنازل حتى تتحقق حقوقنا العادلة والمشروعة. ولأننا لسنا فقط أشخاصاً ممتهنين لمهنة نشتغل فيها مقابل أجر زهيد في آخر الشهر، فإننا كنخبة المجتمع أمام مهمة راسخة، مطالبون فيها بفضح ألاعيبكم، ومسؤولون أمامكم وأمام الوطن، عن تشكيل وعي الأجيال القادمة، لكي لا يصبح وطننا الحبيب أرضاً للكاذبين لكي يسرقوا ويحكموا.
ولممارسة هذه الوظيفة النبيلة، ولتحقيق وعي حقيقي بعيد عن الوعي الزائف، لا يمكن لمعلم مقيد بعقدة أن يسير دون الخوف من السقوط، ولا يمكن أن يلقن أستاذ قيمة الحرية وهو المكبّل كالسجين بقيود عقد، كيف أقنع، أنا أستاذة الفلسفة، تلاميذي، بقول أسبينوزا حول غاية الدولة "الحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة"، أو موقف روسو الذي يرى أنه لا وجود لمبرر مشروع يمكن للدولة الاعتماد عليه لممارسة العنف على مواطنيها، وهم يشاهدون أساتذتهم هاربين في أزقة تطوان ووجدة ومراكش خوفاً من "هراوات" الشرطة، بعضهم كسر ضلع صدره وآخر نزف دماً من رأسه وأخرى فقدت أسنانها، وآخر ابتلع لسانه وهذا أفضل لكي يكف عنّا تكراره لقيم لا توجد في الواقع، أقنعهم بوجوب الخضوع للإرادة الحرة للشعب حسب قول روسو، أو أن يحاول المعلم التغني بالكرامة وقد مرغ وجهه في التراب بفعل عقد مهين، وحقوق هضمت منذ زمن، ولأننا تعلمنا أن القيم والحقوق تنتزع فإنا عازمون على شعل شمعة في درب النضال تنير قليلاً واقعنا المظلم.
في غياب هاته القيم لا يوجد إلا الاستبداد، والأمة التي لا تستشعر كلها أو أكثرها آلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.