لِجمعة أخرى يستمر الجزائريون في الخروج والتظاهر السلمي، رافضين عروض النظام السياسي الذي جعل رجلاً مريضاً في واجهته يوجّهه كيف شاء، ويطالبون بالتغيير الجذري الديمقراطي، وبإنهاء عهود الفساد والاستبداد.
خرجات الجيش على التلفزيون الرسمي بالآونة الأخيرة عند انطلاق المسيرات فاقت ظهور بوتفليقة نفسه، حيث بلغ بشكل مباشر ما بثه التلفزيون الرسمي الجزائري خمس مرات، والتي أكد في واحدة منها أنه مسؤول عن الحل، بمعنى أنه ليس مستعداً البتة التنازل مرحلياً عن وجوده وحضوره بالمشهد السياسي الوطني الجزائري.
فهل ينجح الجزائريون أم يتكرر سيناريو 1988 و1990 الذي شهدت تظاهرات أعنف، ثم التوى النظام السياسي آنذاك، المختفي في الكواليس وبثَّ العنف وصنع فزاعة الإرهاب، ثم جعل يسلّه شيئاً فشيئاً حتى استتب له الأمر كله.
لَربما ومن وجهة نظر شخصية قد تكون تجربة الجزائر في تولي العسكر دفة القيادة السياسية سابقة قليلاً، ولو باختلاف في التفاصيل قليلاً، للتجربة المصرية:
1- شعب خرج، وانطلقت معه أسطوانات وتحركات داخلية وخارجية.
2- تجاوب "تبين فيما بعد أنه مناورة".
3- صعود الإسلاميين "الجبهة بالجزائر والإخوان بمصر".
4- خطأ في التقدير من كل الفرقاء ومن فئات الشعب.
5- وعود وتوافقات ما لبث الجيش أن انقضّ عليها.
6- ثم حكم العسكر ومجازر وفزاعة الإرهاب…
والبقية تعرفونها إلى اليوم…
وإنه لمن المضحك أن تستمر الجزائر أضحوكة بالعالم، وفي الصورة رجل مقعد شبه ميت وهي تنعت نفسها بالجمهورية!
ورغم كل ما يحاك ويُرسم ويطبخ في دهاليز السياسة، وخبث ومكر أصحابها، نجح الجزائريون وعلى خلاف المتوقع في الخروج والتظاهر بعدما نفض الناس يدهم منهم خلال هذه العشرية، حيث ظلَّت الجزائر هادئة والمنطقة تغلي. شعب جزائري عظيم في تضحياته وبسالته وتاريخه! برهن، حتى الآن، على حضاريته ومدنيته وسلمية مسيراته ورقيه، والذي برهن أن الشعوب لا تموت وأن الهبات والتحركات لا تحكمها مراكز ترصد ولا دراسات ولا توقع معين، وأن ما عجزت عنه العلوم الإنسانية من ضبط والتحكم في الحركيات السياسية حقيقة، وأن المفاجآت مازالت ممكنة، وقد تكون تهز وتهد أنظمة الجبر والقهر والفقر والعهر، وتبث الرعب في أعتى الديكتاتوريات حنكة ودهاء.
أمام الجزائريين اليوم دروس تاريخهم المجيد والعامر بالشهداء، وأمامهم المنطقة بتجاربها، وأمامهم كتاب الكون… في خروجهم سنة 1988 أعطوا الشهداء حيث قدر العدد -ما يزيد عن 500- ناهيك عن آلاف المعتقلين، والتي بعد ذلك، فرضت تنازلات النظام السياسي آنذاك، والشاذلي على رأسه، من إشاعة أجواء الحرية نسبياً، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. ثم ما لبثت التحركات الداخلية والخارجية أن أجهضت المحاولة وحولتها إلى تراجعات ومحاكمات واعتداءات وتعسفات وانتهاكات. ليشكل صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ سنة 1991 الذريعة الأكبر للتدخل الأجنبي، والمقص الداخلي الذي حولها إلى عشرية سوداء وسنوات عجاف، والتي أجبر فيها الشاذلي على الاستقالة وإلغاء نتيجة الانتخابات، وبالتالي إقصاء الإسلاميين من التدبير الرسمي، حيث اختارهم الشعب بنزاهة لأول مرة بتاريخ الجزائر، في سياق دولي معلوم آنذاك، ثم اغتيال بوضياف الذي لم يمض على تعيينه إلا قليل في ظروف غامضة، ليتصدّر خالد نزار، الجنرال، المشهد مدعوماً بجهات إقليمية ودولية مازالت تتابع الحراك الجزائري، وقد رأينا زيارة قائد الجيش قايد صالح للإمارات شهر فبراير/شباط الماضي!
وبين صناعة الإرهاب، وسفر وزير الخارجية هذه الأيام لروسيا، وتحركات ومناورات جارية وتصريحات ووعود تتقاطر، وتاريخ حقب سوداء، وتجربة جزائرية شعبية لا يمكن الاستهانة بها، ودهاء الأجهزة الداخلية والخارجية، وتشابك المصالح، وبين وبين… هل ينجح أم يفشل الجزائريون ككل، أم يرتهنون للخارج وللتدخلات والحسابات الضيقة؟
من الأخطاء القاتلة اختصار المشكلة في إزاحة شخص شبه ميت، مقعد، وإنهاء عهدة رابعة أو خامسة!
اختصار النظام الجزائري العجوز بكل أجهزته ودهاته وثعالبه في اسم واحد أو اسمين، أو جهاز وجهازين من أكبر الطامات التي ضربت مصر وقصمت مظاهراتها يوماً، وتونس، وبقية الحراكات العربية، فما أفَاقَ الناسُ إلا واكتشفوا أنهم قد خُدعوا، وأنهم كانوا أمام مناورات محبوكة وسيناريوهات تُعد وتطبخ بعناية، وتبحث لها عن الدعم الداخلي والخارجي كي تنجح.
والحل الذي يقترحه العقلاء وما بلغوه من نضج، يكمن في جبهة وطنية شعبية واسعة لا تقصي أحداً بشكل مسؤول وجدي وحازم صارم وقوي، تضع خطوط مرحلة انتقالية، يتم القطع فيها نهائياً مع الاستبداد والاستعباد، فلا هي إسلامية ولا هي يسارية ولا ليبرالية ولا اشتراكية، بل مدنية ديمقراطية قانونية، يكون الشعب فيها مصدراً للسلطات، والقانون سياج وحام وحافظ ومحتكم إلى أن يتدرب الناس على الحكم وتتقوى المؤسسات وينضج الأفق، ثم يأتي التدافع بين المشاريع ويصبح للشعب قراره واختياره الذي يحميه. يصبح الشعب حامياً يقظاً ومنتبهاً يحاسب ويراقب ويعاقب، عبر مَن يختارهم لذلك، أو مباشرة بما يعرف بالديمقراطية التشاركية الحديثة.
إذن الحل بتوافق مكتوب "ميثاق" على مرأى ومسمع من الشعب وبموافقته، ثم وضع دستور ديمقراطي توافقي بين الكل، يقطع بشكل كلي مع المنطق القديم في التدبير والتسيير، ويوضح المسؤوليات ودور المؤسسات، ويضع كل الأجهزة في وضعها العادي المؤسساتي، وعلى رأسها الجيش في ثكناته ومكانه الطبيعي، مقدَّراً ومحترماً، تحت سيادة دولة الحق والقانون.
طبعاً سيكون من الحماقة والسذاجة أن نظن أن هذه الوصفة سهلة المنال، وأن الأمر انتهى، وأن هذه الأخطاء والمقترحات ستجد أرضاً مفروشة بالورود.
لا بد من نضج ورشد كل قوى الشعب وبكل فئاته، فإما أنها ستختار بين عهد وعهد، وتقطع نهائياً مع مرحلة، وتبدأ أخرى من جديد، ولا يحاول أي فريق أن يستفرد بالمرحلة أو يفكر في الاستيلاء على الحكم، بقدر ما تقتضي المصلحة الوطنية، والتأسيس لانتقال ديمقراطي حقيقي، وتعددية فعلية، وبناء دولة حديثة مدنية كبقية تجارب العالم الرائدة بالجوار، أو مازال الناس يحتاجون لمراحل ومراحل ليصلوا إلى ضرورة القطع نهائياً مع أزمة الحكم وأنظمته الفاشية عربياً.
عوَّدنا الجزائريون على الاستثناء بالمنطقة.. ونرجو ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.