لن تتخيل أن شخصاً يرابط معك في مقعد دراسي واحد لمدة شهر أو أكثر لا لشيء، إلا لتلتزم بمقاعد الدراسة وتكون شخصية متعلمة وفاهمة.
لن تجد أحداً يحرص على تعليمك منذ نعومة أظفارك ومع سني حياتك الأولى، ومع أولى الكلمات التي تنطقها، والخطوات التي تمشيها، إلا شخصية واحدة، ليست هي العمة ولا الخالة، وإن كانتا بمثابة الأم، لكنمها لا تقومان مقام الأم الحقيقية، التي ترصد تحركاتك وتشعر بمرضك عن بُعد، بل تحزن لحزنك وهي لا تدري في بعض الأحيان ما يحزنك، تستيقظ ليلاً على صوتك، أو حركتك، أو سماع أنين المرض منك، هي أحرص منك على نفسك منك.
أحمل نفسي من إسطنبول الجميلة بطبيعتها وعمقها التاريخي، وفتياتها الفاتنات الحسناوات، إلى مدينة أخرى عميقة في تاريخها بعمق الأعين الجميلة التي غرقنا فيها مراراً وتكراراً، أذهب بخيالي نينوى العظيمة الآشورية، إلى الموصل التي أرادوا أن يقطعوا فيها الوصل، إلى أطراف المدينة القديمة حيث الألم المتجدد، والذكريات الجميلة رغم قساوة الحصار ومرارته، إلى النبي شيت، إلى المدينة الرائعة ببساطتها وطيبة ناسها وأخلاقها، هناك في أحد أزقتها القديمة المتهاوية من بؤس الحياة وضيق الحصار، حيث بيت جدي الذي كنا نعيش فيه عائلتان، نحن وعائلة عمي برهان (رحمه الله) الذي رحل منذ سنوات عن الحياة، ويتقاسم البيت معنا جدتي رحمها الله، بيتٌ صغير، في حي من أحياء الموصل القديمة، هناك وضعتني أمي، وأشرقت لها الحياة من جديد، لقد جاء حارثٌ إلى الدنيا، جاء ليحرث لنا الخير ويملأ بيتنا سعادة وحباً، إن لم يسع البيت لنا جميعاً ستسعُ قلوبنا لبعض.
وتمضي الأيام مسرعة ويخطو هذا الطفل الخطوات، وينطق الكلمات، بشخصية قوية منذ البداية، هكذا كانت تصفني، كانوا يهابون حجمك، بقدر ما يخافون من لسانك، على كل حال كبر الطفل، فالسنوات تُطوى طياً، وها هو شارف على السادسة، وآن أوان المدرسة والتعلم، رغم أنها قد قطعت شوطاً معه قبل المدرسة، فقد علمتني الأحرف العربية وبعض السور القرآنية القصيرة، لقد بدأ العام الدراسي، وبدأت معها قصة جديدة، وحكاية أخرى، لقد مضى حارث إلى المدرسة حاملاً حقيبته الكبيرة على جسمه الصغير، لقد بدوت غريباً بين أقراني، ووجدت نفسي حزيناً، لماذا تركتني أمي وحدي ومضت إلى بيتنا، صرختُ كثيراً، عادت من جديد تركت كل شيء خلفها، ففي بيتنا طفلان آخران، حُذيفة وأروى، ينتظران من يرعاهما ويتولى شؤونهما، لكنها بقيت ترابط بالقرب من الصف ناسيةً أنها تجاوزت العشرين عاماً وأن قريناتها في الجامعات، ولكنها للأسف في المدرسة تقف مع الطلبة لأجل طالب واحد هو ابنها وفلذة كبدها.
واستمر الحال شهراً كاملاً، كل يوم من بداية الدوام إلى نهايته، إلى أن بدأ الاستقرار يحلُّ ضيفاً عليه، وبمؤمرات منها مع مديرة المدرسة ست سالمة -على ما أذكر- فقد كانت تجلب الهدايا وتعطيها للمدرسة لتكرمني المديرة أمام الطلاب، لم يكن يخطر لي ببال أنها كانت تقف وراء هذا الأمر، أخبرتني بذلك بعد سنوات، لم تقتصر على ذلك بل كانت شديدة الحرص والمتابعة لي، لسنوات مستمرة، ولا زلْتُ أذكر أنها كانت تعلمني الإملاء وتردد لي الكلمات مرات كثيرة، وبعض الأحيان كنت لا أضبط رسم بعضها جيداً، فكانت عندما آوي إلى النوم، توقظني من نومي قائلة: قم يا حارث اضبط كتابة الكلمات، وما زال الجدار شاهداً على تلك الذكريات الجميلة في حجرة صغيرة بذلك البيت الصغير.
شكراً أمي لقد تخرجتُ في أعظم جامعة في الدنيا، جامعة الأم، التي كل ما يأتي بعدها يعود الفضل لها، فلولاها لما رأيتم هذه الكلمات، ولما وصلت إلى هذا الوعي والإدراك وفهم الحياة، لن توافيها الكلمات حقها أبداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.