لا أعرف من أين أبدأ.. أنا لا أحب الكتابة كثيراً، ولكني فجأة أحسست بأني أريد أن أخرج كل مشاعري، أن أصرخ، أن أقول شيئاً، أن أتكلم.
دائماً أقول إن أمري هين.. ولكنه ليس هيناً،
كنت أكذب على نفسي دائماً.. أقول إني أفضل حالاً من الكثير من المعتقلين داخل السجون، المحكوم عليهم بانتظار موتهم في معاد سبق تحديده.. أهون ممن ماتوا شنقاً بعد حكم الإعدام..
ربما هذا صحيح فعلاً، منطقياً حالي أفضل،
ولكن الحياة ليست دائماً تمشي بالمنطق.
غالباً ما تخالف أحاسيسُنا وشعورنا وأفكارنا وحياتنا المنطق،
وأنا أقع في هذه الدائرة التي ربما لن تنتهي أبداً.. دائرة عدم المنطق.
صحفية في العشرينات من عمرها أحبت الحق وقررت أن تكون في صفه -ربما تبدو هذه الجملة الآن شعارات رنانة- ولكنها كانت منذ ٩ سنوات أهم ما في حياتنا،
لم أستطع أن أسكت عن فساد أو ظلم أو إهانة،
عملت في مؤسسات كانت في رأيي أنها ستحقق أحلامي وأحاول من خلالها أن أفعل شيئاً صائباً،
إلى أن وصلنا للانقلاب.. وهو لم يكن انقلاباً عسكرياً فقط أو سياسياً فقط، هذا يبدو خطأً فادحاً جداً،
هو كان انقلاباً على كل المستويات العامة والخاصة،
انقلاباً في حياتنا وأعمالنا وأفكارنا وحماسنا.
رأيت الظلم بفجوره أمام عيني في كل المجازر التي حدثت بذلت كل ما في وسعي لأفضح هذا النظام -لم أندم ثانية واحدة على فعل ذلك- شاركت مع فريق شبكة رصد في فضح نظام السيسي بكل الطرق،
بتسريبات -تسريبات رصد معروفة ولا تخفى على أحد- أو تقارير أو أي مادة صحفية وقعت في يدي لم أتوانَ أبداً عن استخدامها في عملي ضد النظام،
كانت هذه تهمتي الكبرى، وأصبحت متهمة بالتجسس لأني صحفية.. وتم توقيع أقصى عقوبة علي لأني هاربة خارج بلدي.. هاربة من سجن النظام وبطشه وظلمه.
هذا حقي نعم.. حقي أن أهرب أن أعيش وأن أموت بأمر الله لا بأمر السيسي وقضائه،
حقي أن أستغل أي فرصة أحافظ فيها على أنفاسي باقية حية وأكمل المسيرة.
أستخدمت هذا الحق قليلاً ظاهرياً، ولكن لم أستطع أن أكمل.
انقلبت حياتي أنا أيضاً.. انقلب ما في داخلي،
أصبح كل خبر أكتبه، كل تقرير أحاول أن أفعله أصبح ثقيلاً جداً،
ثقيلاً على عقلي على شعوري على قلبي على أنفاسي.. إلى أن وصلت لمرحلة أنني حتى لم أستطع أن أكتب حرفاً على الشاشة، كان ثقيلاً جداً أن أضغط بإصبعي على لوحة المفاتيح.
تركت كل شيء في حياتي الصحفية وذهبت،
حاولت أن أعيش حياة عادية مثل الآخرين.. قلت في نفسي ربما تنفع هذه الحياة الآن معي، أحب أتزوج، أنجب أطفالاً، وأحول مشروع حياتي وأركزه كله على زوجي وأطفالي. ربما أنا في مرحلة تحقيق ذلك المشروع والعمل على نجاحه،
ولكني ما زلت أكذب على نفسي.
أنا لم أعرف أن أعيش حياة عادية مستقرة كما الآخرين،
ما زال كل شيء ثقيلاً،
كل يوم في خلفية يومي يوجد مشهد الإعدام.. يوجد صوت القاضي الذي نطق الحكم، يوجد مشهد نهار ذلك اليوم، وأنا أجلس أمام التلفاز وأسمع حكم الإعدام علي وأمامي ابني الرضيع وكل ما أفعله هو أن أنظر إليه وأبكي وأبكي، ومازلت أبكي حتى الآن.
تتكرر هذه الخلفية يومياً في حياتي، لا تتغير أبداً،
لا أستطيع أن أعيش حياة عادية وأنا محرومة من حضن أمي ورؤيتها ومن إخوتي وأهلي،
لا أستطيع أن أعيش حياة عادية مستقرة وأنا متنقلة من كل بلد إلى آخر خائفة هاربة.
أعيش الرعب الأكبر من أن يتم تسليمي أو ترحيلي في أي لحظة،
أعيش رعباً على أطفالي وزوجي أن تتم أذيتهم بسببي،
أعيش رعباً وخوفاً أن يمسوا أهلي بسوء بسببي،
أن يستغل أحدهم موقفي وحالتي ويؤذي عائلتي.
لم أعرف طعم الاستقرار والحياة العادية الهادئة الجميلة،
أكذب على نفسي كل يوم أني سعيدة ومستقرة وكل شيء هين ويهون،
ولكنه ليس هيناً أبداً ولن يهون أبداً،
حتى كتابة هذه السطور كذبت على نفسي فيها بأني سأستطيع أن أخرج كل ما في شعوري، ولكني لم أستطع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.