كما كان التوقع تماماً بمقال سابق، أطلَّ العسكر بشكلٍ علني، في شخص رئيس الأركان قايد صالح بالتلفزيون الرسمي، واقترح تفعيل المادة 102 من الدستور الجزائري، كمبادرة تعدُّ لا دستورية ولا قانونية ولاشرعية لها. مبادرة وتحرك من مؤسسة الجيش، الذي مكانه الثكنات لا التدخل في الحياة السياسية.
وبغضَّ النظر عمَّا ذهب إليه البعض مِن تخلٍّ للجيش عن بوتفليقة، كقراءة ممكنة لو كنا فعلاً أمام رئيس حقيقي ومؤسسات، دون أن نعترف أن الجيش هو مَن كان يحكم مِن خلف رجل "ميت"، فإنَّ العسكر بهذه الخطوة يحضرون للمرحلة على طريقتهم، حتى إذا وجد مَن يسيرون على رسمهم ويوافقونهم الرأي، اعتمدهم مدنياً لتمرير قرارته حتى يزول الضغط الداخلي والخارجي، ويتوهم الناس تغييراً معيناً "المناورات لن تنتهي حتى يتم إعداد دستور ديمقراطي يقطع مع عهد…".
على الجزائريين كما سبق وألحَحنا ونبَّهنا ألا يسقطوا في إعادة التجربة المصرية، وألا ينسوا تاريخ الجيش الجزائري والأجهزة معهم سنوات خلت، وإن باختلاف في التوقيت والتحرك. فإن عدم استعداد الجيش للتنازل عن الحكم وخرجاته التلفزيونية الرسمية أكثر من هيئة الرئاسة نفسها، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه ممسك بجهاز الحكم، خانق له، بوصفه بعد ضعف النخب المؤسسة المنظمة القوية القادرة على قيادة المرحلة، إن لم تجد تدافعاً وضغطاً شعبياً يُعيدها إلى جبهاتها الحقيقية، والتجارب الديمقراطية أثبتت أنه لا مكان للجيوش في الحياة السياسية. والشعب الجزائري العظيم ناضج بما فيه الكفاية بقواه ونخبه، لكي لا تُمارَس عليه الوصاية ويعيد الأخطاء.
الدستور الجزائري ينصّ في المادة على شغور المنصب وتولي رئيس مجلس الأمة للأمور لمدة قابلة للتجديد، وهو ما جعل الجهة القابضة بزمام الأمور تخرج من الظل، وتتجاوز الرجل الميت قبل أن تنفلت الأحداث المتسارعة مِن يدها، وتفطن المعارضة لما يجب عليها فعله بإسلامييها ويسارييها وبقية فئاتها. فهل يأكل الناس الطُّعم؟
وكما سبق وأكَّدنا، أن اختصار مشكلة في شخص أو شخصين، جهاز أو جهازين، هو تقزيم لأنظمة الحكم العربية المستبدة، التي تشكَّلت على مدى سنوات، وتداخلت وتشابكت مصالحها، وأنه في أي لحظة يمكن أن يقفز من وسط الناس "سيسي" آخر، أو فصيل قديم… فكيف يمكن تفويت الفرصة عليها لكي لا تنقضّ على الحكم كما وقع بالجارة مصر؟
أولاً يجب أن تُعلن فئات الشعب ومعها النخب والمعارضة الجزائرية رفضَها تدخّل الجيش في الحياة السياسية، الذي مكانه الثكنات، وتأخذ زمام المبادرة، لأن انحناءة الجيش والأجهزة حتى يخفت الشارع ما هي إلا مؤقتة، وما إن يستقرَّ الوضع حتى تجد ألف مبرر ومبرر لاستعادة الساحة لصالحها.
إما في حال صعود الإسلاميين "الذين يجب عليهم أن يعوا كغيرهم من اليساريين وأي فريق واعٍ، أن الأولوية للقطع مع الاستبداد وبناء مرحلة انتقالية توافقية لا يهم فيها الآن أي مشروع، بقدر ما تنتقل بالناس من عهد لعهد، ويسعون مع الجميع لبناء دولة مدنية ديمقراطية قانونية قوية مستقرة، تعبر مرحلة حساسة، حتى تكنس بقايا الاستعباد والاستبداد، وتؤسس لدولة المؤسسات وربط المسؤولية بالمحاسبة وانتقال ديمقراطي حقيقي".
فالجيش ومَن معه داخلياً وخارجياً، لن يتوانوا عن احتضان المختلفين مع أي فريق حاول الصعود وزرع القلاقل وبثّ الخلافات وقسم الجبهات، وتوزيع وعود أو مكاسب مرحلية، حتى تعود الأمور لسابق عهدها تماماً كما التجربة المصرية، ثم يتم التخلص من كل شخص وكل فريق لتخلو الساحة، ولكي لا يعود الشارع مرة أخرى، وهذه طبيعة الاستبدادات التي لا تحب أن ترتهن لأي أحد كان في استفرادها بدواليب الحكم ونهب الثروات والجثو على رقاب الشعوب، بل قد تستفيد مرحلياً بما يقويها، حتى تتجاوز ما هي عليه في حالات الضعف والتحرك الشعبي.
ثانياً: لا يجب أن يرتهن أي فريق أو يثق في الجيش لسابق ممارسته، ثم للتجربة المصرية الماثلة أمامنا. والحال أن الجيش اليوم يعيش حالة عزلة وعدم شرعية ولا دستورية تدخلاته، مما يجعل الأمور واضحة، لا يمكن تفويتها لكي يعود لمكانه الدستوري والقانوني، وعلى القوى وفئات الشعب التوافق دون الحاجة لأي جهاز، وتفرض بقوة الشارع وتقلب موازين القوى لصالح الشعب وأجندتها للتغيير الوطني الديمقراطي، دون الحاجة إلى انقلاب عسكري ناعم ظاهر ماكر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.