لا أدري أين تجلس أنت الآن تحديداً، ولا أدري من أي البلاد أنت..
حتى أني لا أعرف من تكون!
لا أرى لونك ولا أسمع لهجتك
لا أعلم أيضاً أرجل أنت أم أنثى..
لا أدري ما حالك ما همّك أو ما الذي يغبطك
وبقدر جهلي بك أريدك ألا تجهل أنت ما يحدث لنا الآن
اليوم فقط "قتل" الخطأ الطبي 11 رضيعاً في أحد مستشفيات تونس العاصمة.
اليوم وككل مرة يقتل "الدواء" رضّعاً لم تتجاوز أعمارهم بضع ساعات.
بمثل هكذا عطايا تتفضل بلادي على المرأة التونسية التي حافظت على طفلها في بطنها، وخاضت لأجله آلاف المعارك من ساعات العمل الشاق المرهق والأجر الهزيل إلى ظروف السكن والمنازل التي تكون أشد برداً من الشوارع لعدم توافر التدفئة وارتفاع فواتير الكهرباء.
تلك المرأة التي تضع حقيبتها أمام بطنها لتحميها من التدافع في معارك الحصول على مقعد في "التاكسي الجماعي" أو "ميتروات" وحافلاتها "الصفراء".
تلك المرأة التي اشترت وخاطت وجهزت واشتمت ملابس صغيرها وهي توضبها في حقيبة السفر للموت الأخرس الصامت المبرر طبعاً!
أيها العالم نريدك أن تعلم أننا هنا حينما تذهب الواحدة من نسائنا للولادة على عائلتها أن تتقبل ربما عدم عودتها هي أو طفلها أو الاثنين معاً، فالخطأ الطبي وارد ويكاد يصبح القاعدة في مستشفياتنا الحكومية والنجاة منه استثناء وبعث جديد ولطف إلهي!
أيّها الناس..
في كل دول العالم حتى في تلك الأكثر فقراً، حتى في تلك الأكثر بؤساً وتخلّفاً، حتى في تلك التي يحكمها أشدّ الأوغاد شراً وظلماً، فيها كلها توضع جثث القتلى في أكفان وصناديق خشبية.
لكنّ وطننا قدّم للأمّهات أجساد أطفالهم الزرقاء الباردة في علب ورقية "كرتونة".
أيها العالم.. نحن هنا تسأل مذيعة الأخبار المديرة العامة للصحة العمومية: كيف تسلمون جثث الأطفال في علب ورقية؟ فتجيبها بأن تلك هي الطريقة الأسلم بسيكولوجيا!
نحن الذين لا يرانا أحد.
ولا يسمع أحد أنّات الأمهات اللاتي تحجّر الحليب في صدورهن وفاقم ألمهنّ وأوجاعهنّ. فقد كان هذا الحليب الساخن سيدفئ عظام أبنائهن الذين استقبلهم وطنهم بعلب الورق وشهادات الوفاة المختومة بأصابع قاتليهم.
أردتك فقط أن تعلم ماذا لو كنت تونسياً، وإن كنت تونسياً تذكر معي من نحن.
نحن الذين نلعق أوجاعنا ونسخر من عذاباتنا.
نحن الذين نعتز بأنفسنا ويحتقروننا ويدوسون على أكبادنا في آن.
في الحقيقة لا شيء أخضر عندنا سوى تراب مقابر صغارنا وشبابنا.
نحن الذين يعلّقُ أطفالهم المشانق في الأرياف الصفراء المتهالكة.
نحن الذين شممنا شواء لحوم تلاميذنا وشاهدنا أجسادهم المتفحمة في المبيتات المدرسية.
نحن الأم الضريرة المسنّة يذبح الإرهاب ابنها حينما كان يرعى أغنامه ثم يرسلون لها برأسه مفصولاً عن جسده لتحتفظ به في ثلاجتها الفارغة خوف أن يتعفن قبل أن يراه راعينا وحاكمنا.
نحن الأم ذاتها يُذبح ابنها الآخر الباقي بنفس الطريقة.
نحن القاصرات اللاتي تُغتصبن ويضطرهم القانون والمجتمع للزواج بمغتصبيهم.
نحن العجائز الذين انتُهِكت شيبتهم.
نحن العجوز التي تموت مغتصبة طمعاً في جرايتها الهزيلة أو في أقراطها.
نحن الذين نقدم للبحر كل شهر وجبة من أشلاء شبابنا الباحث عن شغل في أوروبا.
نحن الفتاة التي تميزت في الدراسة تصل الليل بالنهار مجتهدة، لا يثنيها البعد عن أهلها ولا سنوات الدراسة الطويلة بحكم تخصصها، ولا تلك المبيتات التي تعشش فيها الرطوبة.
لتقضي أخيراً نصف أيام شبابها الباقية وهي تبحث عن عمل فتعبث بها الطرقات ووسائل النقل العمومي ومكاتب التشغيل لتجد نفسها فجأة زوجة في بيت أي رجل بعد أن أبرحها المجتمع ضرباً بالسؤال والإلحاح عن الزواج وبعد أن حطمها هاجس العنوسة.
نحن تلك الفتاة التي تريد ألا تخاف أبداً.
نحن تلك الفتاة التي تريد أن يساعدها مجتمعها ونخبتها في أن تحقق ذاتها بنفسها وأن تختار الزواج بقناعة ورضا في أي سنّ وبأي شكل، نحن تلك الفتاة التي تبحث حتى عن نصف حياة.
نحن الذين سرق التطرّف ألمع أصدقائنا ونوابغنا.
نحن الذين لم ندرس الموسيقى.
نحن الذين لم يكن لنا ملعب للرياضة في مدرستنا فيطفئ معلم العربية مجبوراً لهيب نشاطنا ببعض الحركات الرياضية في قاعة الدرس.
نحن الذين لم نتعلم أبداً بغير عصا.
نحن الذين يستعرض مربونا ومعلمونا أنشطة لم نقم بها أبداً أمام لجان التفقد.
نحن اللواتي يأتي الناظر العام لأقسامنا ليُخرج المتحجبات منا واحدة تلو الأخرى دون سهو ولا ملل قبل الثورة، لكن اليوم نفس ذلك الناظر لا يأتي أبداً لأولئك الذين يبيعون لأطفالنا المخدرات وسجائر القنب الهندي في نفس تلك القاعة.
نحن الذين لم نذهب إلى السينما.
نحن الذين لم نناقش أفلاماً لا مع مدرسينا ولا مع عائلاتنا.
نحن الذين نرى قاعات السينما الفارغة من روادها إلا من بعض المنحرفين والفارين برغباتهم المريضة إلى أي مكان مظلم.
نحن الذين يقودنا الإعلام ولا يمثلنا أبداً.
نحن العامة دون النخبة والنخبة التائهة الشريدة.
نحن تناصف المرأة والرجل في السياسة وتساويهما في الميراث ومعاناتهما في أرض الواقع.
نحن مَن تسقط العاملات منا مِن شاحنات النقل الفلاحي شهيدات لثمن الخبز وبعض الحلوى لأطفالهن.
نحن في الظلم وفي الظلام.
نحن الذين نهرب من أوطاننا للشمال حاملين شهادتنا الجامعية وبعض الصحون العتيقة وقليلاً من الكسكسي والبنّ لنشعر بانتمائنا لوطن جميل فقط حين لا نكون فيه.
هل هذا هو الوطن الذي نموت لأجله؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.