ثمة سياسة متقنة تظهر في شكل حرب متعددة الجوانب يخوضها نظام السيسي منذ 3 يوليو/تموز 2013 ضد جماعة الإخوان المسلمين وعموم الإسلاميين في مصر، وهو ما يحتاج إلى تفكيك وتفسير تلك الحرب (إعلامية، أمنية، اقتصادية، فكرية) على الإسلاميين، وفي مقدمتهم الحركة الإٍسلامية الأكبر "الإخوان المسلمون".
على المستوى الإعلامي تبنت المؤسسات الإعلامية المحسوبة على النظام سواء نبعت ملكيتها من رجال أعمال موالين للنظام أو محطات تمتلكها دول خليجية مؤيدة ومساندة لنظام السيسي أو محطات تمتلكها إحدى مؤسسات الدولة، خطاباً تعبوياً سواء ضد حكم الجماعة إبان وجودها في السلطة أو بعد الانقلاب العسكري وتحوّل في الكثير من الأحيان إلى اعتبار الإسلاميين جميعاً أعداء للنظام دون غيرهم من القوى السياسية الأخرى. وطوال سنوات تنوع الخطاب الإعلامي المصري باختلاف موجهيه، لكنه لم يهمل المقصد الأساسي في القضاء على الإسلاميين عبر الحشد والتعبئة الإعلامية، ولم يكن الخطاب الإعلامي مبتدعاً بقدر ما كان ترجمة لبعض السياسات التي انتهجها النظام.
وعلى الجانب الأمني، تلقى الإسلاميون أقوى الضربات الأمنية في تاريخهم سواء باعتقال قياداتهم من الصفوف الأولى والثانية، أو على مستوى الأفراد المتعاطفين غير النظاميين، وخاض النظام ضربات استباقية نتج عنها توقف التظاهرات المدعومة من "تحالف دعم الشرعية" الذي تزعمته جماعة الإخوان وغلب عليه الطابع الإسلامي من خلال القوى المكونة له، توقفت المظاهرات سواء في الشارع أو داخل الجامعات، وقضت الضربات الأمنية على الحركات الطلابية وبعض الحركات التي انتهجت عنفاً طفيفاً مقارنة بسياسة القمع الأمني العنيف للنظام، فيما اعتمد النظام على سياسة تجفيف المنابع التي أضرت بالتنظيمات الإسلامية وجعلتها تعاني من جفاف مالي أثر على أنشطتها الداخلية وفعاليتها، ناهيك عن سياسات الإخفاء القسري والتصفية الجسدية، كل تلك السياسات الأمنية القاسية أفقدت الإسلاميين قوتهم وتأثيرهم في الشارع المصري، وبدا النظام المصري بقيادة السيسي يخوض حرب تطهير ضد الإسلاميين في المجتمع المصري وليس فقط من على الساحة السياسية.
على المستوى الاقتصادي اعتمد الإسلاميون على مصادر متعددة للتمويل، وهو ما حفظ لهم الاستمرارية والقدرة على تلقي الضربات لمدة طويلة والقدرة على التكيف، إضافة إلى الاعتماد على مؤسسات اجتماعية كالمدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، ومنذ الانقلاب العسكري لم يألُ النظام المصري جهداً في تجفيف منابع الإسلاميين المالية واستخدم في ذلك وسائل شتى كالتحفظ على الأموال التي شملت مئات من قيادات جماعة الإخوان المسلمين وبعض القيادات الإسلامية، بل وامتد الأمر إلى مجرد الاشتباه في التعاطف مع الإسلاميين وسرعة استخدام الضربات الاقتصادية لهم، كالتحفظ على أموال اللاعب المصري السابق محمد أبوتريكة.
تعمّد نظام السيسي القضاء على اقتصاديات الإسلاميين في مصر فيما يشبه سياسة "التأميم" التي اتبعها عبدالناصر في السابق، وازدادت المؤسسات المجمّدة أموالها أو المتحفظ عليها حتى بلغت مئات الجمعيات والمستشفيات والمدارس بزعم ملكيتها لقيادات الإسلاميين!
خاض النظام كذلك حرباً فكرية على مستوى واسع ليس فقط ضد الجماعات الإسلامية بل ضد مؤسسات حملت الفكر الإسلامي، تارة بوصفها داعمة للإرهاب، وتارة أخرى لخوفه من قيامها بدور قد يجعل هناك نزعة نحو الالتفاف حولها، وبدا النظام غير مسلح بأيديولوجية معينة إلا من سياسة الترهيب التي اتبعها لمحو الإسلاميين، غير أن المدقق في السياسات المتبعة يجد لها مقصداً واضحاً هو استبدال ما يمكن أن نطلق عليه "الإسلاموية السياسية" بإسلاموية لا تلتفت نحو السياسة أو تسير في ركب النظام، أو استبدال السلفية "السياسية"، بسلفية "جامية"، بدا ذلك جليّاً في تسامح النظام مع حزب النور وترك هامش من مزاولة العمل السياسي والدخول إلى البرلمان مقابل الاستمرار في تقديم دعم كبير لنظام السيسي وصل لتأييد التعديلات الدستورية التي تستهدف إطالة أمد السيسي على سدة الحكم مدة تزيد على 10 سنوات إضافية.
سمح النظام بتداول قضايا فكرية معينة كقضايا الإلحاد، ودعوات خلع الحجاب العلنية، والفصل الكامل للدين عن الدولة، لكن بغير أن تصير تنظيماً قد يخشى تشعبه بعد حين، وبدت كأنها تخدم مصالح النظام بطريقة مزدوجة، فبوجه أول تثير الكثير من البلبلة التي يعتمد عليها النظام في إلهاء المواطنين عن الاهتمام بقضايا سياسية مفصلية، وعلى الوجه الثاني تستهدف تحجيم انتشار الإسلاميين مرة أخرى، واعتمدت وسائل شتى داخل منظمات المجتمع المدني والتي أتيح لها هامش من الحرية في الدعوة لمثل تلك الأفكار، إضافة إلى بروز بعض الوجوه الجديدة الداعية إلى أفكار غريبة عن بنية المجتمع المصري.
قد يكون من الإجحاف النأي عن الحديث عن الصراع بين الأزهر والسيسي في سياق الحرب الفكرية، وهو ما يعتبر من أحد أوجهها الأصيلة، إذ عمد النظام إلى تكثيف الضربات التي استهدفت الدور المحوري الذي يقوم به الأزهر عبر إثارة عدد من القضايا الفقهية والفكرية والتي تحمّلها السياسي بشكل شخصي كالطلاق الشفهي، وتحديد النسل، وتكفير داعش، والزجّ بشيطنة الإخوان للأزهر، وأتت تلك الخطوات تالية للضربات الأمنية التي تلقاها طلاب جامعة الأزهر، وقد هزت من صورة شيخه ومسؤوليه الرسميين لدى الطلاب، وبدا هؤلاء وكأنهم محسوبون على النظام، ما أبعد احتمالية أن تدعم أي قوى إسلامية الأزهر. وهو ما سهل المهمة على النظام في حرب تقليم الأظافر التي خاضها ضد الأزهر واستهدفت -في بعض الأحيان إقالة شيخ الأزهر نفسه والمحصن دستورياً من الإقالة- لم يهدئها سوى تدخل إماراتي مؤخراً بعد القانون المثير للجدل الذي أصدره السيسي والذي يحد من تحركات شيخ الأزهر خارج البلاد.
يحاول السيسي القضاء على الإٍسلاميين بشكل رئيسي مع محاولة حثيثة لوضع إسلاميين آخرين قد يظهرون بشكل أكثر تسامحاً مع سياسات النظام وهو ما يظهر من خلال ما تقدم ذكره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.