لقد وصلنا المحطة المزمع لقاؤنا فيها، ولكني على طول الطريق ألمح فتاة جميلة تقف في ناحية من نواحي الحافلة، ترتدي نظارة، تعبث بشعرها بين الفينة والأخرى، كلما اقتربتُ من محطة الوصول أقول لنفسي: كيف سأنزل حينما أصل المحطة؟
كيف أترك هذا الجمال وأمضِ عنه، أعطيها ظهري وكأني ما أبصرت شيئاً، ولا زاحمتُ أحداً لأجل الحصول على نظرة، أرممُ بها روحي المتعبة بالألم وقلبي المنهك.
حين تصل المحطة وتود النزول ستَّتهم نفسك بالجبن أو الضعف أو قلة ثقة، لأنك ستمضي عنها، وتذهب إلى الهدف المحدد من الرحلة، هذه الجميلة، أم الهدف المنشود.
يبدو الإنسان ضعيفاً، وضعيفاً جداً أمام فكرة التخلي والترك، لهذا كلما طرأ على الإنسان حدث يدعوه للتخلي عن مكان ما أو وظيفة ما أو رفيق ما، أو فكرة، أو حبيبة، أو وطن، أو منزل، يقفُ في أنحاء هذا الشيء متسائلاً: كيف أتخلى بكل هذه السهولة، أو أترك ما ألفته في هذه الحياة، أترى هي محطةٌ باستطاعتنا أن نتخلى عنها، أم أنها حَفرت في ثنايا قلوبنا شيئاً عظيماً، وخلّدت في روحنا ذكرياتٍ كثيرة يصعب محوها.
الأماكن والذكريات، العادات والتقاليد، الأفكار والموروثات، نحن دائماً على مفترق طرق، بين أن نتخلى عن أشياء ألفناها لأجل أن نتحلى بأشياء أفضل منها.
يخرج من منزله ويُلقي عليه النظرات الأخيرة، تذرف عيناه الدموع، فهو وإن بدا مجرد مجموعة من الحجارة مرتبة بشكل منتظم، لكنه في نفس الوقت شَهِدَ ذكرياتٍ وأحداثاً جميلة، ضحكات وسمراً، وجمعه بالأهل والأحباب، ولقاء الأصدقاء، كل الذكريات الرائعة فيه، تلغى على حساب جانبٍ واحد، أن البيت لم تعدْ حجراته كافية، وأن العائلة التي بدأت بشخصين انتهت بثمانية أشخاص، يفكرون بجدية في أن يؤسسوا أسراً جديدة، ستبدو فكرة التخلي لوهلةٍ مؤلمة ومرعبة، وفِي نظرة بسيطة على النتائج التي ستعقبها أصبحت لها نظرة إيجابية، لتتحلى الأسرة بمنزل واسعٍ يتسع لكل أفراد العائلة.
ليس هذا أفضل حالاً من صاحبي الذي كنتُ أُحدّثه عن ضرورة السعي لأعمال أخرى، فالعمل في مجالنا الحالي غير مُجدٍ من الناحية المادية، رغم أنه نافعٌ ومفيد من الناحية المعنوية والتطويرية، لم يستوعبْ الفكرة إطلاقاً، بل رآها صعبة جداً، وكأن ما خطر في ذهنه كيف لي أن أتخلى بهذه السهولة، أترك العمل الذي انطلقتُ مع نشأته الأولى، نسي أن هذا العمل امتصَّ كلَّ طاقته وأخذ معظم وقته، ولَم يعطهِ إلا الفُتات من المال، في الحياة نكون خاسرين، حينما نكون متشبّثين بالأشياء لدرجة كبيرة، أزمةٌ نفسية يعيشها معظم الناس في مجالات الحياة كافّة، لأننا تربَّينا على فكرة التشبث، ولَم نتعلم أن التخلي هو خطوةٌ مهمة للتحلي بأشياء ممتعة في الحياة.
حتى على مستوى الأفكار، نجد صعوبةً في التصحيح، فنحن نمتلك مقومات أن ما وجدنا عليه آباءنا كان صائباً على الإطلاق، لقد تفاجأ أحد التربويين عندما قلت له إن ما نُعامِل به طلابَنا اليوم خاطئ، ولا يتناسب مع زمانهم ومقتضيات عصرهم، فقد انتهى منذ زمن دور الأستاذ الأسطورة، الذي يدخل للقاعة الدراسية ليجد الطلبة جالسين كالملائكة، لا يهمسون بكلمة، ولا يلتفتون، رغم أنها خاطئة في ذاك الوقت، لكنها كانت سائدة، ويوجد مجتمعٌ يتقبلها ويُطبّقها.
أما اليوم فقد تغيّر كل شيء، ومن لم يعترف بأن كل شيء تغيّر فسيجرفه التغيير لا محالة، وسيبدو راكضاً خلف الجيل الجديد، ولن يلحق بهم، هذه فكرة بشرية تَصَالح عليها البشر واتفقوا.
أما أن تجادل أو تناقش في فكرة تتبناها المنظومة الدينية، فأنت داخلٌ في حقل للألغام، تتوجه إليك فوهات الانتقاد والتسقيط، ولا بأس أن تسمع بتصنيفات يطلقونها عليك. ستبدو أمامهم أضعف المسلمين إسلاماً، وأقل المؤمنين إيماناً، ولو توقف الأمر عند هذا الحد فأنت على خير كثير.
أفكار كثيرة دخلت المنظومة الدينية، هي ليست من الدين في شيء، سوى أنها لبست ثوب القدسية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.