لم يعرف العالم منذ أن بدأ حتى الآن معنًى للتوقف عند يوم أو سنة أو حتى قرن، أي أن الحياة تسير كمرِّ السحاب تصنع التاريخ وترنو إلى المستقبل الذي سيبيت يوماً ما ماضياً ربما يندرج على صفحات الذكرى أو لا.
كذلك وعبر كل مراحل التطور التاريخي التي عرفناها لم يكن الإنسان يوماً متنصلاً من حبه للأرض التي وُلِد بها ولن يكون، فهذا الارتباط بين الإنسان وأرضه ارتباط غريزي فطري لا يمكن إلا أن يكون متلازماً مع الوجود البشري كائناً ما كان هذا الوجود، ومع تقادم الزمن نالت أنياب التطور العصري للمجتمعات حتى من الكلمات والمصطلحات نفسها لتدخلنا معها على عصر جديد بظاهره وقديم قدم الأيام بمفهومه، فهو لم يطرأ علينا كما نعتقد بل نحن من طرأ عليه، مفهوم الوطنية العصري هذا الوليد اللفظي لآلاف السنين من حب الأرض والتضحية لأجلها لربما كان باعتقادي لعنةً صارت تلازمنا كظلنا وتطمس فينا غياهب الانفتاح العقلي الذي أمسى خلف ستارها محجوباً ومستتراً ببضعة مصطلحات أوجدها العصر الحديث.
وما يسوقنا إلى التوضيح لما أعني به فيما أسلفت أمثلة التاريخ الكثيرة والجلية أمام الجميع والتي ربما نعرفها كثيراً لكننا غفلنا عما توحيه إلينا بما فيها من طيّات صفحات، فقريش منذ أن عرفها الإنسان وهي تدين لمكَّة وشعابها ومائها وهوائها بالدم والروح حتى كانت ليُبذلُ في سبيلها الغالي قبل الرخيص، ما يعطينا الحجة لنطلق على ذلك الارتباط "الوطنية المحضة" التي لا يخالطها نزعةٌ دينية ولا حتى سلطوية، فأسياد قريش حكموا أرضهم بسيادة المال والعزوة والنسب ما يجعل كل واحد منهم جديراً لأن يكون سيد قومه ومحطّ طاعتهم له، وذلك بمعزلٍ تام عن الجاهلية التي كانت تسود آنذاك فذلك ليس موضوعنا.
وكما كانت قريش ومكة كانت سائر قبائل العرب بالنسبة لأراضيهم التي كانت مسقط رأسهم وحاضنة طفولتهم وشبابهم ومأوى عجزهم ومن ثم قبورهم التي أحبوا أن يدفنوا فيها بعد مماتهم.
ولأجل هذا الارتباط بالأرض لكم سالت أنهار دماء، وما ذلك مما أُريق لأجله بعزيز ولا غالٍ،
وفي النظر لأبعد من هذا فحتى القبائل البدائية كانت تذود عن أرضها بالروح والدم بعيداً عن الدين وخارج أي حدود كانت الوطنية بمفهومنا اليوم متأصلةً في النفس الإنسانية.
وعلى التوازي مع التاريخ نمشي إلى عصرنا اليوم التي أضحت الوطنية فيه محاطة بأسياج الأفكار والأهداف التي صيّرت الارتباط بالأرض أو "الوطنية" -كما هو سائد- إلى مطمعٍ، وأكثر منه إلى وسيلة وسبيل لبلوغ مطامع شتى من سلطةٍ وسيادة وغيرهما.
انقلاب المفاهيم الإنسانية للأشياء عبر الأيام أدى إلى انقلاب الدنيا كلها رأساً على عقب والانحراف بالمسيرة الطبيعية للحياة السهلة والمرنة إلى أنماطٍ غاية في التعقيد.
في يومنا هذا وفي هذه الأيام حصراً التي يشهدها العالم على وجه العموم والوطن العربي على وجهٍ خاص أعني حقبة الربيع العربي الذي تفجرت خلاله أصواتٌ لطالما كانت قابعة تحت وطأة الاستبداد، أصواتٌ لم يكن بمقدورها سوى التهليل لأنظمتها الحاكمة أو السكوت، لا سيما ما شهدناه في سوريا على مرور 7 أعوام.
ومحطتنا هنا سوريا كمثال هو الأجلى والأعمق تجربةً والأغنى أحداثاً لما لعبت فيه المصطلحات المزخرفة والملونة من دور كبير في تغطية ما يحدث ونلقي الضوء هنا على ما أسميه اليوم كارثة الإنسانية التي كبّلتنا قيودها وأعيانا حمل أوزارها كإثم لا غفران له أعني "الوطنية".
في سوريا يموت المئات كل يوم تحت شعارات هذه اللعنة أو ما يصح الوصف به بأنها الكذبة الأكبر حتى اليوم تلك الأسطورة الخرافية التي هي في الأصل حقد جاهليٌّ أعمى واستبداد متأصل في نفس الحاكم، من منا لا يحب أرضه ولا يذود عنها بدمه؟ إلا أن سوريا صارت مقبرة الخارجين عن استقامة الأمر لمن يحكمها على أنهم خونة أو أعداء الوطن كما يقولون، باسم الوطنية صار عدو الحاكم هو عدو الوطن وهنا بيت القصيد، فقبل أن تلقوا بالاتهامات يميناً وشمالاً حدِّدوا لنا مفهوم الوطن بالنسبة لكم، أهو الحاكم نفسه أم الأرض؟ وذلك ما أشار إليه الكاتب كارل ماركس منذ عقود خلت بقوله: "حين يتجسّد الوطن بشخصية إنسان… تقبع الأمة في الظلام". ولكنه فاته أن يقول أمراً لعدم اكتمال الرؤية الواقعية عنده وفي عصره ومجتمعه هو أن هذه الأمة التي قبعت في ظلام تجسُّد الوطن والوطنية بالولاء للحاكم ونظامه عندما أشعلت شمعة لتنير أمامها سبلاً أظلمها عليهم الاستبداد أصلاً كفؤوا عليها بحاراً لئلا تعلو جذوتها فتنير للشعب أكثر، على هذه الشمعة الضعيفة التي تطيح بنارها بزفرة، وجَّهوا لها عواصف هوجاء، وما ذلك بالقوة بل على العكس تماماً هو الضعف والخوف المأصلان في هذا الحكم الجائر والذي حاز على التميُّز اللامع في شعاراته الأخاذة بجمال ما فيها، وما هي في الحقيقة سوى وهْمٍ ملوّن وسراب.
وبعد أربعة عقود من الزمن ونيّف من حكم النظام السوري الذي احترف الخديعة ظهرت لنا الوطنية السورية بأنياب من النار أحرقت البشر والحجر ولم ينجوا من حرّها سوى من رحم ربي، ذلك اختصار لسوريا كمثال وما خفي يطول على الكلمات شرحه غير أنها جليّة أمام أعيننا من خلال ما تحمله رسالة الإعلام لنا.
ما يجعلنا نخلص إلى حقيقةٍ واحدة لا ثاني لها بأن الوطنية الخالصة هي حب الأرض والحفاظ عليها بتجرُّدٍ تام عن كل ديانة أو عرق وذلك ابتداءً من المهد وصولاً إلى اللحد.
كل سوري هو ليس محبٌّ لأرضه فحسب بل عاشقٌ لها أيضاً، وكما قال الشاعر مظفر النواب:
فا النملة تعتزُّ بثقب الأرض …… أما أنتم فالقدس عروس عروبتكم
فإذا كانت النملة تعتز بثقبها وهو الوطن بالنسبة إليها فما بالك بأعظم مخلوق في الوجود وأخص الذي عرف الشام وعاش سحرها وتنفس هواءها الطاهر وأدمن ماءها، ثم أبعده الاستبداد إلى ما بعد حدود الخيال من آلام النفي والتهجير بتهمة الخيانة العظمى للوطن، وأتساءل متعجِّباً: "يا ترى أي وطن يقصدون؟".
لربما أصيب الرأي إذ أقول مما يوحيه لنا الفهم الحقيقي للتاريخ أن ما يُسمى الوطنية في العصر الحديث هو الخطيئة الكبرى الثانية في الوجود، ولعل هناك إجابةً عن سؤال يطرح نفسه بتعجُّبٍ واستغراب كبيرين، هو أن الخطيئة الأولى أورثنا إياها أبو البشرية آدم (عليه السلام) وتاب عنها لكننا نحمل أوزار تبِعاتها حتى اليوم عاجزين عن التسلل خلال قضبان أقفاصها التي قيدتنا الحياة بداخلها حتى يومنا هذا، فمن يا ترى أورثنا الخطيئة الثانية؟ وهل سيتوب عنها أم لا؟ ذلك ما لم أُحِط بإجابة له.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.