تحضر الذبابة على وجه الإنسان العربي في أثر شهير عن الدبة التي قتلت صاحبها، وتحضر أيضاً على وجه الإنسان المصري في تعبير دارج عن الإنسان مفرط العصبية، الذي قد يصبُّ جامَ غضبه حتى على نفسه، وتراه "بيتخانق مع دبان وشه"، وبشكل ما يبدو أن صراع الإنسان مع الذبابة في ثقافتنا يعد ترمومتراً لمدى الحماقة التي قد تصيبه هو أو من يصاحبه، وبشكل ما أيضاً، حينما أطالع وجه الأمير محمد بن سلمان على الشاشات مؤخراً أرى -بعين الاستعارتين المأثورتين- وجه رجل أُكيلت إليه دزائنٌ من اللكمات التي لم تنجح في هش أي ذبابة.
استهلَّ الأمير عمَلَه وزيراً للدفاع السعودي -وولياً لولي العهد قبل إزاحة سلفه من ولاية العهد- بضربة عسكرية على اليمن، متصوراً أنها ستُتوِّجه في المنطقة حامياً للشرعية وأمام الغرب حاجز صد منيعاً أمام الخطر الإيراني، كخطوة على طريق يبدأه لإعادة تأسيس المملكة وتغيير صورتها على كل المستويات، مستلهماً –وفقًا لتصوراته الشخصية– مجد الإسكندر الأكبر، ومنتظراً في لحظة ما من التاريخ أن ينقضّ على الإيرانيين أنفسهم في عقر ديارهم -بعدما يفرغ من ميليشياتهم في الجنوب بالطبع- حيث سينتظره عموم الشعب الإيراني في الشوارع، رافعين صوره وهاتفين باسمه، وهو الحلم الذي سبق الحماس إليه بإصدار فيلم أنيميشن سعودي يخرج المشهد بهذا السيناريو تماماً، لكن الصورة الوحيدة التي اكتسبتها المملكة من خلال الحرب في اليمن أظهرتها كدولة استعمار أو غزو أجنبية، بل وتبدو عالقة -بعد قرابة أربع سنوات- في مستنقع لم تحسب حسابه جيداً فلم تنجح في تحقيق أهدافها التي ساقتها إليه.
ومع أن أحداً لا يتصور أن تصبح بلاد الحرمين أو ولي عهدها هدفاً لدعوات عامة المسلمين في صلواتهم وخلواتهم، إلا أن اقتران أهل اليمن بأهل فلسطين وسوريا في الدعاء بالفرج وامتزاج ذلك بمشاعر الحنق على صور آلاف القتلى وملايين الجوعى والمرضى (الذين يموت منهم طفل كل 10 دقائق) وضحايا القصف الذي طال حتى باصات الأطفال يخبرنا أي مرحلة من السوء بلغتها صورة التحالف الذي تقوده السعودية، الذي صار متهماً بارتكاب جرائم حرب، بينما بدأ الداعمون في الغرب بفضِّ أيديهم من رهان يسلك منحدر الخسارة، معلنين إدانة الانتهاكات من حين لآخر، ومنادين الواحد تلو الآخر بوقف القتال والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ولم تكن "غزوة اليمن" هي الوحيدة للأمير محمد بن سلمان للتصدي للنفوذ الإيراني، لكن سبقتها محاولة أخرى لم تكن بالعنف ذاته، ولكن صداها -مقترن بسيرة فشلها- يظل يتردد حتى اليوم إلى حدٍّ دعا الأمير نفسه للسخرية مما يتردد حولها في المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد بالرياض مؤخراً، ولعلك أدركت أني أشير إلى اليوم الذي استقل فيه رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري طائرته إلى الرياض، ليتذكر أن حزب الله قد اختطف لبنان فيعلن -عبر قناة سعودية- استقالته من الحكومة اللبنانية احتجاجاً على النفوذ الإيراني، بخطاب ركيك فضح المشهد من أول لحظة، وخلال 17 يوماً ظلَّ فيها الحريري "ضيفاً" على الرياض، كانت صحف لبنان تصفه بالرهينة، وينادي مطرب شعبي في ملهى ليلي بعودته، مهدّداً بتدخل "السيد" (حسن نصر الله) لإعادته بالقوة لو لم ترده السعودية، وفي نهاية المطاف -وبعد تدخلات دولية كما سيتضح لاحقاً- عاد الحريري إلى بيروت ليتراجع عن استقالته قبل أن نشفق عليه مرة أخرى وهو يشارك الأمير سخريته من فكرة اختطافه، بتأكيده أنه موجود في المؤتمر الاقتصادي "بكامل حريته".
ولم يكن اليمن كذلك -على فظاعة ما يدور فيه- أول محطات تخلي الغرب عن دعم الدب الداشر، بل هي أصلاً أثر جانبي للصدمة التي وضعت العرش المحتمل لولي العهد على كفِّ عفريت، وقد ظنَّ العالم بعدما رأى ما فعله هذا الأمير في الريتز كارلتون أن كائناً مَن كان لن يحول بين العرش وبينه، حتى وضع مجموعة من أخلص رجاله مصيره على كفِّ شبح جمال خاشقجي، الذي طارده بضراوة لم يطارده بها حياً، مواصلاً كشف عورات سياساته التي طالما انتقدها في حياته، فيما لا يزال مصير جثمانه الذي قُطع إرباً في قنصلية المملكة بواسطة تلك المجموعة مجهولاً.
كانت الضربة قاصمة، وإن لم تك قاضية، اضطرت محمد بن سلمان للانحناء للعاصفة، متخلياً عن 15 عنصراً من أكفأ عناصره الأمنية، بعضهم كانوا حرساً شخصياً له، بالإضافة إلى اثنين من أهم القيادات في دائرته المقربة، أحمد عسيري، نائب رئيس الاستخبارات والمتحدث باسم التحالف العربي في اليمن سابقاً، وسعود القحطاني، مستشار الأمير الأقرب الذي لا يتصرف دون توجيه منه، والمسؤول عن الأمن السيبراني بالمملكة، وما يُسمَّى بجيوش الذباب الإلكتروني المخولة بالتصدي -من خلال التشهير والتحريض والسباب- لكل من يهاجم القيادة السعودية على الإنترنت، مرة أخرى يحضر الذباب في قصة الأمير لكن كسلاح وليس كعدو، إلا أن الفارق ليس جوهرياً حقاً، فالقحطاني -الذي يلقبه البعض بوزير الذباب- لعب ببراعة دور الدبة الشهير.
ضربت أزمة خاشقجي بأذرعها في كافة اتجاهات العلاقات الدولية للمملكة العربية السعودية، وضعتها تحت الاختبار، كانت شرعية الأمير الدولية مهددة، والاستخبارات الأمريكية تؤكد تورطه في العملية، لكن الرئيس الأمريكي لم يسكت على هذا الكلام، الناس معادن يو نو، عمل ترامب على ردِّ الجميل لصديقه الضامن لأمن إسرائيل، التي لم ينس رئيس وزرائها بدوره أن يؤكد على أهمية استقرار المملكة لمواجهة إيران (ضمن ما يقال إنه خطة تشمل إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتعرف باسم صفقة القرن، وربما بعض التنسيق بخصوص مشروع نيوم أيضاً)، حسناً، لا بد أن نعترف أن ولي العهد قد ذهب بعيداً في موضوع الشرعية الدولية والدعم الغربي هذا، الرجل بالفعل يلعب في ثوابت شرعيته الإسلامية والعربية كخادم مستقبلي للحرمين الشريفين.
وهذا ليس كل شيء، فبمجرد سقوط القحطاني توالت التقارير عن فظائع المستشار الذي لم يفلت منه الكبير قبل الصغير، فهو يعذب معتقلي الريتز كارلتون الذين سبق أحدهم خاشقجي إلى نفس المصير تحت إشرافه، ويعذب ناشطة فيهددها بالاغتصاب، أو يحتجز ويعتدي على رئيس وزراء لبنان، يعني مع الأخذ في الاعتبار لكل الاختلافات والفوارق، ولكن يبدو هنا بشكل ما كما لو أن لكل جمال عبدالناصر صلاح نصر.
وإذا ذُكرت حقوق الإنسان في السعودية ذُكرت كندا، صحيح موضوعها تافه، مجرد تغريدة لسفارتها تدعو لوقف بعض الانتهاكات، ولكن النظام السعودي انتفض لسيادته الداخلية انتفاضة عنترية، بالطبع في زمن ما قبل اغتيال خاشقجي الذي جعل ملف حقوق الإنسان السعودي هو الموضوع الأكثر تداولاً لدى الحكومات وأجهزة الاستخبارات ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وجلسات المقاهي، وربما حتى ربات البيوت، وتسابقت وسائل الإعلام السعودية لكشف انتهاكات حقوق الإنسان في كندا، ولتسمني متفائلاً ولكن هذا هو الجانب المشرق في قصة كندا، أن السعودية استندت إلى المعايير الحقوقية في هجومها، طالما وجدت نصف كوب مملوء عند من يلهيك ويأتي بما فيه فيك، هو في النهاية يتبنَّى معايير تدينه بالأساس، فعاجلاً أم آجلاً سينكشف، أما أن يتبنى مرجعيته الخاصة، فالله وحده أعلم بما يمكن أن يحدث ساعتها.
يظل موضوع حقوق الإنسان بالفعل صداعاً في رأس الأمير السعودي، وخاصة مسألة حقوق المرأة المعقدة في بلاده، ربما يراها مجرد أسطوانة مشروخة ولكنه يحتاج إلى دعم من يرددونها في الغرب لطموحاته السياسية والاقتصادية، فكيف يمكن إسكات الأسطوانة إذن؟ تمنحهن حقَّ القيادة فيحدثونك عن اعتقال المطالبات به، أو تمنحهن تسهيلات في مجالات العمل والترفيه فتجد مَن تهرب لاجئة إلى كندا لتتحدث عن اضطهاد المرأة السعودية، أو من تنتحران في الولايات المتحدة خوفاً من عودتهما إلى المملكة، بعدما قدمتا طلباً للجوء، رباه، ألا يمكن لأحد إخراس هؤلاء النسوة؟ أحدهم يحاول الوصول إلى 2030 هنا.
هل ذكرت سعود القحطاني ونسيت تركي آل الشيخ؟ من ينسى الرجل الذي ضجَّت المدرجات المصرية بالهتاف لطول عمره! لكن يبدو لي أنني قد أوضحت نقطتي هنا، ربما لا أحتاج كذلك إلى الإشارة إلى قضية تيران وصنافير، أو إلى حصار الدولة اللي بالي بالك، ما أود قوله فقط أن الحكاية ربما لم تكن تحتاج إلى فتحة صدر الإسكندر الأكبر هذه، فرُبّ رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب يعرف كيف يهش ذبابة ملعونة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.