بادرتُ بتقديم شهادتي في وثائقي "الساعات الأخيرة" للتاريخ، ولحسم أمور كانت معلقة على التأويلات والتحليلات، وذلك لعدم وجود شهود عيان. وقدمتُ هذه الشهادة أيضاً إنصافاً للطرف الغائب، بعرض الأحداث أولاً، ثم عرض الخط السياسي المفسّر، حتى ولو لم يتفق معه الناس.
أوضحت بشهادتي كيف تم إجهاض هذه التجربة الديمقراطية الوليدة، ولكي أوثق الجرائم السياسية التي تمت في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ مصر.
وسعيت بكل إخلاص لردِّ غيبة مجموعة من أنبلِ وأشرف مَن أنجبت مصر، بعرض ما قاموا به سياسياً وعملياً لصد الحرب الضروس التي كانت مُسلَّطة عليهم من كل اتجاه.
وكما ذكرت سابقاً أن ما تم عرضه في الفيلم يُعد جزءاً بسيطاً من شهادتي، ربما تذيع قناة "الجزيرة" أجزاء أخرى من الشهادة لاحقاً، أو أستعرضُ بعضاً من أحداثها في مجموعة من المقالات في المستقبل القريب.
فقد جاءت شهادتي في "الساعات الأخيرة" مؤكدةً لعدد من الرسائل التي غابت عن الكثيرين في خضم أجواء مشبعة بالسلبية والتناحر والانتهازية السياسية، خاصة في معسكر ما يُسمّى المعارضة. لم يكتفِ الفيلم بتوثيق خطة الخداع الاستراتيجي التي انتهجها السيسي ومعاونوه منذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس مرسي مهام منصبه، لكنه وثق مجموعة من الرسائل الهامة التي ربما خفتت لأسباب مختلفة، ومن تلك الرسائل ما يلي:
بدايةً، حَسَم الفيلم بشهادةٍ مباشرة وحاضرة كيفيةَ تنفيذ الانقلاب العسكري الكامل وتحديد أشخاصه وآلياته والملابسات المصاحبة له، وهو الأمر الذي يُضاف إلى قيمته التاريخية والتوثيقية للحدث، قيمةٌ قانونية، ستكون لها أبرز الأثر حين نصلُ إلى مرحلة العدالة الانتقالية.
ركَّز الفيلم على الضعف الشخصي للقيادات العسكرية المهيبة والدموية، وأنهم -وحتى اللحظات الأخيرة وبالرغم من احتجازهم فعلياً لنا- كانوا صغاراً جداً بأكاذيبهم، مرتعدين مترددين غير قادرين على المواجهة المباشرة، مكتفين باللعب من وراء الستار، متمترسين خلف سلاحهم. وهذه نقطة مهمة لأن منظومة الانقلاب بذلت مجهوداً كبيراً لتسويق صورة الزعامة القوية صاحبة القبضة الحديدية.
ركز الفيلم على قضية الخيانة العسكرية خاصةً من الحرس الجمهوري وقياداته، وهي قضية تمسُّ أفراد المؤسسة العسكرية جميعاً؛ لأن جزءاً من تربيتهم مبنيٌّ على شرف العسكرية، فأظهر الفيلم ما نفذه الحرس الجمهوري مخالفاً لعقيدته الأساسية، وهي الحفاظ على الرئيس من الانقلاب العسكري.
أنهى الفيلم ما تبقى من تبرير لموقف الدكتور محمد البرادعي وقتها، بتوثيق سعيه للقيام بدور المحلل المدني المقبول دولياً لانقلاب عسكري دموي، ميسراً قبول المجتمع الدولي لهذا التدخل العسكري العنيف والانقلاب على المسار الديمقراطي.
ضرب الفيلم في مصداقية الذرائع التي صيغت لشرعنة الانقلاب، بدايةً بتوثيق التحرك العسكري الكامل بعلم أو بتنسيق مع المخابرات الأمريكية قبل مظاهرات ٣٠ يونيو/حزيران ٢٠١٣، ما يؤكد أنها ليست استجابة لتحرّك الجماهير. كما أبرز الفيلم بشكل استثنائي موضوعي صورة متوازنة للتظاهرات المؤيدة والمعارضة للرئيس مرسي، وأن هذه هي الرؤية الدولية لما حدث على الأرض، ما ينفي عن الانقلاب أنه ناتج عن ثورة شعبية جامعة لأطياف الشعب المصري بلا صوت لمؤيدي الرئيس مرسي.
أجهض الفيلم أحد المبررات الأخلاقية التي ساقها السيسي لقيامه بالانقلاب بأنه أعطى الرئيس مرسي عدة فرصٍ ومقترحات للخروج من الأزمة، فأثبت الفيلم أن السيسي لم يكن يريد أيَّ حلٍ سياسي، وأنه كان يدفع دوماً في اتجاه المواجهة لتبرير الانقلاب العسكري. وأنه تراجع أكثر من مرة عما اتفق عليه. وأنه مَن اختار أن يضع البلاد في هذه الدوامة بدلاً من الاتفاق على حل سياسي يحمي البلاد من الفوضى.
كما تناول الفيلم موضوعاً آخر، ربما يساعد المشاهد العربي في أن يتخطى الرؤية النمطية التي يفضلها للدور الأمريكي بما يتوافق مع نظرية المؤامرة الدولية. فقد تطرق الفيلم لمواقف متعددة داخل الإدارة الأمريكية، وأنها ليست كياناً واحداً برؤية واحدة ومواقف ثابتة.
فوضع الفيلم جون كيري -وزير الخارجية وقتها- والمخابرات المركزية في ناحية، والرئيس باراك أوباما والسفيرة الأمريكية في ناحية أخرى. لقد كان لكل فريق رؤية مختلفة للتغيير المنشود ودعم مختلف للوسائل المستخدمة.
وفي هذا السياق يمكن ذكر أن أفضل مَن وثق تباين المواقف داخل الإدارة الأمريكية أثناء الانقلاب كتابُ ديفيد كيركباتريك "في أيدي الضباط – الحرية والفوضى في مصر" الصادر في ٢٠١٨، ومقالات عدة للأستاذ محمد المنشاوي المتخصص في الشؤون الأمريكية.
تناول الفيلم عملية الخداع الاستراتيجي التي قام بها الجيش بقيادة السيسي، لكنني أراها أضعف حلقة في الفيلم ولهذا اضطر لاستخدام القصة الفرعية المجتزئة لي مع السيسي. وهذا لا ينفي قيام الجيش بالعملية، ولا يبرر لماذا لم تنجح الرئاسة في صدها أو فضحها.
وأخيراً وثق الفيلم اللحظات الأخيرة مع الرئيس مرسي، التي أظنها من أقوى مواقفه وتعكس حرصه على عدم الصدام بين الشعب والجيش، والتي وجَّه فيها رسالة مباشرة للمصريين، أعادها في خطابه الأخير مراراً وتكراراً، ألا وهي أن على رأس أولوياته الحفاظ على الدم المصري كله، وأنه لا يقبل بأن يبيع الثورة بمنصب صوري يحافظ به على نفسه وحياته، لكي يقوم بدور المحلل للدولة العسكرية الأمنية، حتى ولو كان ثمن ذلك كله حياته هو شخصياً.
هذه قراءتي لأهم ما جاء في فيلم "الساعات الأخيرة"، وهي ربما تكون مختلفة عن قراءة يسقُط فيها المُشاهد فريسةً لحالة التناحر التي استمرت أعواماً، والسعي لإيجاد مَن يتحمّل الخطيئة كلها بدلاً من أن يعرف الحقيقة للتعلم من الأخطاء والتقريب بين الناس والتركيز على العدو الحقيقي الذي اختطف الوطن وألقى به إلى المجهول.
أنا لا أتهرب من الأخطاء بل أواجهها، وأستطيع سرد الكثير منها، ولن أبذل مجهوداً في التبرير، لكنني أيضاً لن أنجرف للجدل مع التحليلات السطحية المخلة، ولن أحاول رسم بطولات وهمية لن يصدقها أحد. وهذا الفيلم لم يتناول ذلك الجزء من التاريخ بل ركز على الساعات الأخيرة، فإن قصدوا أياً أو كل ما ذكرته من ملاحظات، فلهم مني التحية. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.