بعد يوم عملٍ شاق -وما أكثرها- تذهب إلى فراشك آملاً في نوم عميق وسريع، لكنك تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة، وإلا لانتهت نصف أسباب شقاء الإنسان على هذه الأرض. تجاهد نفسك في تصفية ذهنك من أفكارٍ تهاجمه بشراسة؛ كأن بينك وبينها ثأر لا فكاك من براثنه وإن جئت حاملاً كفنك بين يديك، يمر الوقت فيزداد شقاؤك حين تتذكر معاناتك الصباحية اليومية في الاستيقاظ مبكراً للعمل. تصبح أكثر حدةً مع نفسك وتقرر النوم بصرامة، لكن الأمور لا تسير هكذا بكل تأكيد. ومن هنا يبدأ حبل أفكار لا نهائي.. مديرك.. أسعار البنزين.. داروين.. سيارتك المستقبلية.. كل ما نسيته منذ عام مَر.. جدتك التي توفيت منذ عامين.. اسم ابنتك التي لم تأت بعد (لأنك لم تتزوج طبعاً).. معلمة الدراسات في مرحلتك الابتدائية.. مباراة فريقك التي سيواجه فيها غريمه التقليدي بعد ثلاثة أشهر.. وأشياء أخرى ليس من اللائق الحديث عنها هنا تأتيك.
وفي خِضَم كل تلك الفوضى التي تجتاحك بعبثية فريدة تأتيك فكرة واحدة بناءة، فكرة تبدو من الوهلة الأولى رائعة، تحاول أن تُنَحّيها جانباً فيتصدى لك ضميرك الأدبي، تخبره بأنك ستتذكرها في الصباح وستكتب عنها مقالاً رائعاً، لكن ذلك لا يثنيه، بل ويبدأ في تذكيرك بعدد المرات التي أخبرته فيها بذلك وكانت الحصيلة النهائية من الكتابة فيها صفراً! فتضطر لمجاهدة نفسك وإحضار مفكرتك من على المكتب وتدوّن الفكرة باختصار شديد، كل هذا بالطبع والغرفة يسودها الظلام؛ لن تضيء المصباح لكتابة عدة كلمات.
تعود إلى فراشك بسرعة، تحاول أن تغالب كلمات وتعبيرات يبدو وأن الفكرة فتحت لها طاقة لن تُغلق الليلة، تغمض عينيك فيأتيك سطر يبدو من وجهة نظرك عبقرياً.. تعتدل وتعود إلى مفكرتك التي أحضرتها إلى جانبك بخُبث من يعرف ما هو مقدم عليه، تكتب السطر وتُقسِم في سريرة نفسك ألا تكتب شيئاً آخر الليلة، لكن هيهات هيهات، الفكرة بدأت في الدوران ولن تتوقف.. عاصفةٌ تنتشل الكلمات من كل مكان، كلماتٌ وتعبيراتٌ لم تكن تعلم حتى أنك تدركها.. أن باستطاعتك استخدامها، والعليم بأمور الكتابة يفهم جيداً ما أتحدث عنه، هذا شعور لا يغالبه أحد وإن أقسم ألف قسم.
إذاً لا مناص.. تنهض.. تنير المصباح الكهربائي.. تُعِد كوباً من الشاي.. تُحضر دفترك الكبير وتجلس على المكتب.. تدوّن وتدون وتدون، عشرة أسطر.. عشرين خمسين.. لا تعلم.. توقفت عن العد منذ فترة، ما دامت الفكرة نَشطةٌ فلتكتب حتى النهاية.
تتوقف.. تنظر إلى الورقات فإذا هي أربع ورقات بخط غير منتظم، لا لا هذه فكرة تصلح لكتابة قصةٍ قصيرة؛ ليس من الفطنة أبداً أن أستهلكها في مقال أو حتى مقالين.. تُحدث نفسك!
تجمع أوراقك وتضعها في دُرج مكتبك الذي تحتفظ فيه بأشيائك الثمينة؛ أو دعنا نقول بأفكارك التي تظن أنها ثمينة، فالدرج لا يحتوي إلا على أوراق كلها لأفكار ثكلى، لم تعبأ بأمرها منذ أن كتبتها في ليالٍ تشبه ليلتنا هذه، فقط لو نظرت أسفل الورقات الأربع، ستجد عشرات الورقات التي شهدت النهاية نفسها، هذه فكرة قصة قصيرة لكنك اعتقدت أنها تحتمل كتابة رواية؛ نعم رواية ولن تقل عن 500 صفحة. ستكتبها بكل تأكيد لكن حين تفرغ لها. وهذه قصة مبتورة توقفت عند منتصفها لأنك حاولت تحويلها من قصة واحدة قصيرة إلى مجموعة من القصص المترابطة، وهذا مقالك الذي لم تستهلك فكرته لأنه يصلح لمجموعة مقالات. وها أنت ذا لم تكتب الرواية.. ولا مجموعة القصص القصيرة.. كما أنك لم تكتب مقالاً واحداً منذ ما يقرب ثلاثة أشهرٍ، والسبب أنك ترى أنها جميعاً أفكار عظيمة لا يجب استهلاكها في كتابةٍ عابرة.
انتهيت منذ عدة أيام من قراءة كتاب "السيرة الطائرة"، وهو سيرةٌ ذاتية في ثوبٍ عجيبٍ متفردٍ للكاتب والشاعر الفلسطيني الرائع الأستاذ إبراهيم نصر الله، أنصحكم بقراءته بكل تأكيد، لكن الذي يتصل مع موضوع مقالي هنا هو أنك على طول الخط وأثناء قراءتك الكتاب ستجد أدلة عن كيف يمكن للأفكار أن تتحور وتكبر طالما أنك تكتبها دائماً، فعلى سبيل المثال ستجد فصلاً بعنوان "كيف أنجبت القصيدة رواية"؛ وهو خير دليل على تلك الفكرة، قصيدة تُكتب.. تنشر.. يحبها الناس.. ولأنها تحتمل ما هو أكثر من قصيدة تثقلها الأيام والتجارب فتدفعك الفكرة لإعادة اكتشافها لتصبح رواية.
نفس الأمر ستجده يحدث مع الراحل العظيم الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي كانت روايته الماتعة "في ممر الفئران" معالجة بشكل ما لفكرة تم طرحها في أحد أعداد سلسلته الشهيرة "ما وراء الطبيعة" منذ سنوات عديدة، وكانت بعنوان "أسطورة أرض الظلام"، ثم أثقلت الفكرة على مدار عدة أعوام لتصبح في النهاية رواية قائمة بذاتها، وهو الذي تكرر أيضاً في عدد من قصصه القصيرة التي كانت كل قصة منها يتم نشرها بشكل دوري على 5 أو 6 أسابيع، وفي النهاية تمت إضافة بعض القصص إليها وتجميعها في كتاب واحد كتجربة كتاب "أفراح المقبرة"، والأمثلة على ذلك عديدة ومتكررة.
لذا فإن التعامل مع الأفكار كشيء مادي تخشى من استهلاكه ونفاده هي طامةٌ كبرى. فالأفكار عموماً والجيد منها خصوصاً لا يفنى أبداً، وإذا كانت فكرتك التي كتبت عنها تحتمل حقاً ما هو أكثر من ذلك ستلاحقك.. لن تقبل فكرة أبداً ألا تُوَفي قدرها، إن الكتابة عن فكرة ما ولو كان يسيراً يفتح لك آفاقاً أخرى أوسع بكثير، لكن أن تظل تُراكم الأفكار وتكدِّسها فوق بعضها البعض فهذا أكبر خطيئة تقوم بها في حق أفكارك. لذا قم الآن وأحضر أوراقك أو افتح حاسوبك وأخرج إحدى أفكارك المكدسة أياً كان موضعها الذي تحتفظ بها فيه؛ وابدأ في الكتابة عنها طالما كان ذلك ممكناً.. أُحَدّثُ نفسي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.