رسالةٌ صغيرةٌ إلى ابنتي ذات الأعوام الخمسة، التي لا تقرأ العربية بعدُ، كحالِ آلاف الأطفال هنا، ممن سافر بهم آباؤهم إلى أوروبا، ولم يدركوا أنَّ فقدان الهوية هنا أمر شديد الخطورة، إن لم نتداركه على الفور.
صغيرتي سنا:
أكتب إليكِ ولا أدري إن كانت عربيّتك ستُسعفك يوماً ما لقراءة هذه الكلمات، أكتب إليك لأني أخشى عليك فقدان العربية، أخشى أن يأتي عليكِ يوم تترجين به أحداً كي يُقرئكِ إحدى مقالاتي، أخاف عليكِ عقدة اللسان،
أخاف عليكِ حنجرة فقط أعجمية، أخاف عليك من حروف لا تفقهينها، وكلمات لا تنطقينها، أخاف عليك من لغة أنت الآن تجهلينها، أبذل جهدي لأن أعلمك القراءة والكتابة، لا أريد لكِ فقدان الهوية، أريد أن تتذوقي جمالَ حروفي كما يفعل مئات آخرون، لعلَّكِ يوماً تحبين العمق فترحلين للورقة وتعانقين العربية، لعلّ حبرها يحضن ذهنك ويصنع منه عبارات سحرية، سترحلين يا صغيرتي من هنا يوماً، ستعودين إلى موطنك، وبعدها تزورين موطئك، ستعودين لهنا لأجل الحرية، ستدركين يا صغيرتي أنَّ الإنسان ينمو حيثُ الإنسانيةُ،
ستختارين بنفسك أرضاً تكون لكِ وطناً، بعيداً يا فتاتي عن قراراتي الشخصية، لكني أريد أن تعلمي أني لم أذُق كأس الغربة إلا لأن أسقي ظمأكِ، أريد لكِ عيشة هنيّة، لا جوع ولا فساد ولا ديكتاتوريّة، لكن هناك شيئاً ما سيتغير، الشتاءُ في إسكندنافيا طويل جداً، وناصع البياض، أعلم أنك قد أوشكتِ على نسيان هيئة الربيع، لكن الدفء قادم، وكما أخبرتُك سابقاً، كل شيء سيتغير يوماً ما، ستنمو أصابعك، وستتغير نمرة قدميك، ستتغير البرامج التلفزيونية التي تتابعينها، وستدركين أنّ سندريلا ليست أقصى أحلامها أميراً،
وبأن الأميرة النائمة لم توقظها قبلة الملك، وبأن الإنسان ليس هشاً للدرجة التي تجعله يشعر بحبة البازلاء الراقدة تحت فراشه، ستدركين أن صعوبات الحياة تتغير، حتى إنها ستنمو معك تماماً كما ينمو شعرك الكستنائي الجميل، ستكون دائرتك هنا كبيرة جداً يا صغيرتي، ربما ترتبطين بقوقازي، وربما عربي، وربما أعجمي، أبيض ربما أو أشقر أو أسود، ذاك القلب من سيختاره حينها، ولا شأن لي إلا أن أصون قلبك، لكني أوصيك بالعربيّة، أوصيك بأبجدية رُصت في كتاب سماوي محفوظ،
لا تشوبه شائبة، أوصيك بلغة كانت يوماً سلم من أراد التحضر، أوصيك بألا تتنازلي عن أية قضية، أنا لا أسعى لعزلك عن المختلفين، وإنما أريدك أن تنسجمي مع الآخرين وتحافظي على قوامك، أريدك أن تحبي الله، وألا تكوني إلا رسالة خير في هذه البلاد الغربية، لعلك تعودين إلى الوطن يوماً تاركة هنا أثراً جميلاً، كقطرة المطر لا نراها لصغرها، لكننا نرى ثمارها بعد حين، ردِّدي كما تقول أمك: اللهم اجعلني ممن يُزهر في كل تربة، وأنت الآن يا صغيرتي في تربة خَصبة للغاية،
أَزْهِري بجانب شوكة الصبار، وأثْمِري بجانب حبة القمح، منّي الرعاية، ومن أبيك يا صغيرتي السقاية، ستُشرقين يوماً كما مطلع فجر الثلث الأخير من أيلول، كميلادك النقي تماماً، ستكونين نجمة في فضاء هذا الكوكب، أشاهدك من بعيد يوماً، سنكون نجوماً طيفيّة، حتى لو احترقتُ أنا جمراً، لكن التلاشي لا يصيب المجرة يا صغيرتي، حتى ولو انفجر النجم شُهُباً، أوصيك بنفسكِ يا صغيرتي، ألّا تخجلي بفكرة تعتنقينها، ألا تعيشي للحظة أنتِ لا تنتظرينها، في الختام أوصيك يا صغيرتي بالعربية.
والدتك: هيا توركو
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.