يوم كان للمتعة والإقناع عنوان، نجد المتعة واللّذة بشتى أصنافها متجسدة في مبارياته، المباراة يكون نسقها متذبذباً أحياناً، أو هيمنة من فريقٍ قادم من مقاطعة ثائرة أحياناً أخرى، لمسات ساحرة من هنا وهناك، واستماتة دفاعية جعلت الحارس ينعم بالراحة في أغلب المباريات، وخط وسطٍ متراصٍّ، بدءاً من ارتكازه، وفنانيه الذين يتفنون في بناء الهجمات، إلى خطّ هجومٍ مرعب، يُفزع الخصوم مهما تطاولوا وتجبّروا، علماً أنه لا وجود لمهاجمٍ صريح، يلعبون بمهاجمٍ وهمي.
كانوا يمطرون شباك الخصوم، يستحوذون على الكرة، ونسبة التمريرات الناجحة تقارب المئة في المئة. يوم كنا نكذب على آبائنا بأننا نحتاج نقوداً لغرضٍ مدرسي، من أجل توفير ثمن المقهى، وعندما لا نملك شيئاً نسترق نظرات من خارج المقهى خلسة، ويوم يكون فريقنا الماتع متأخراً في النتيجة نحسُّ بدبيبٍ أصم يجتاحنا، وقشعريرة تعترينا.
يوم كنّا نحمل شعاره، ونخرج مسرورين بفوزه، ويوم اكتسح شياطين إنجلترا، واهتز المقهى برمته متعالياً في السماء فرحاً، ويوم ذرفنا دموعاً ملتهبة تكلّست في عيوننا بعد أن استطاع أبناء مورينهو اقتحام حصننا، وأحزنونا، وحرمونا من رقمٍ قياسي، الفوز باللقب في نسختين متواليتين، هذا الرقم ظل صامداً حتى كسره ملوك مدريد بثلاثة تتويجات متتالية.
يوم تملّكنا شعورٌ مريب بعد أن اكتَسَحَنا البافاري بايرن ميونيخ بمجموع أهدافٍ في الذهاب والإياب، بلغ 7 أهدافٍ كاملة، وفي 2015 حققنا المراد بتتويجٍ أعاد الكتالوني إلى عرشه المعهود، وفزنا بترسانةٍ منسجمة، تقدّم لوحاتٍ كروية بديعة. ويوم كانوا يلْبِسون الخصوم ثوب الخسارة على المقاس.
أهذا هو برشلونة الذي عهدناه، برشلونة الذي يجعل الخوف يدقّ في قلوب خصومه أسبوعاً قبل المباراة؟ برشلونة الذي أحكم قبضته على كلِّ شيء في يومٍ ما، صار الآن عرضةً للاستهزاء والتهكم. شعلة اللاعبين انطفأت، صار ميسي هو المنقذ الأول والأخير في كل مباراة يلعب فيها برشلونة. أيام بيب غوارديولا، اعتمد الفريق على تكتيك استقاه من الأيقونة الهولندية "يوهان كرويف"، الذي تولى تدريب برشلونة سنة 1988، وتُوِّج معهم بدوري الأبطال، حينها كان بيب غوارديولا لاعباً تحت قيادته.
مستوى برشلونة في تراجعٍ ملحوظ، وهذا يُرى بشكلٍ واضح، وأداؤه لم يعد مقنعاً ألبتة.. فريق صغير، كبلد الوليد، يحرجهم بفريقٍ لا يستطيع مقارعة برشلونة في أي حال من الأحوال، وتنتظر الفريق هذا الأسبوع مباراة فاصلة أمام فريقٍ فرنسي عنيد اسمه ليون.
بهذا الأداء المتذبذب لن يفوز النادي الكتالوني حتى بلقب "الليغا"، لا سيما أن المطاردَين هما قطبا مدريد: الريال والأتلتيكو. حتى الكرة لم يعد الفريق يستحوذ عليها بشكلٍ جيد كالسابق، خط الوسط فقدَ توازنه بمغادرة الرسام أندريس إنيستا الذي أبدع لوحات جميلة، وسبقه تشافي بخروجٍ مفاجئ. قبلهما، شاهدنا مغادرة أجمل قناصٍ لَعِبَ في برشلونة، وهو صامويل إيتو، الذي لا يتوانى في تسجيل الأهداف، كان يتسم بنجاعة رائعة.. ثم يايا توريه، وتيري هنري، دافيد فيا.
بعدها أتى وقت مغادرة داني ألفيش القلعة الكتالونية، وترك جرحاً غائراً في قلب كل عاشق لبرشلونة، ترك فراغاً في الجهة اليمنى، رغم أننا نلاحظ اندفاعاً وهجوماً من طرف سيرجي روبيرتو، وامتلاكه لمسة ساحرة في التمريرات العرضية، لكنه لا يستطيع إعادة مجد ألفيش. خروج بويول قلب الأسد من الباب الضيق بعدما طاردته إلإصابات، ولم يعد قادراً على مقارعة أسرع المهاجمين في أوروبا. فريقٌ كان متوهّجاً أيام بيب، بابتداعه خطة التيكي تاكا التي أزهقت روح أعرق الأندية الأوروبية.
اليوم، والآن، صار برشلونة يتخبّط في دوامة التعادلات، وصار اللاعبون يحقِّقون النقاط الثلاث بشقِّ الأنفس، وروحهم تكاد تُزهق. لم تعد المتعة حاضرة في المباريات، شوارع هنا وهناك، دفاعٌ متقهقر، ووسط مختل، خروج إنيستا وتراجع مستوى بوسكيتس سيؤدِّيان به إلى الاضمحلال لا محالة، لم نعد نرى إبداع بوسكيتس وهدوءه، وتموقعه الجيد وتقديم المساندة للمدافعين. مدرب احتل قلعة البلوغرانا كأنه لا يفقه شيئاً في كرة القدم، إذ يعتمد على تشكيلةٍ غير متوازنة، وكان هو السبب الرئيس في خروج الفريق من دور ربع النهائي أمام روما الإيطالي في السنة الماضية، وكوتهينو الذي تلاشى بريقه في رمشة عين، ولم نعد نرى تسديداته الخارقة.
بيكي، من الواجب عليه الخروج ورأسه مرفوع، رغم أنه ما زال يعطي، لكن يجب منح الثقة للشباب، بعد أن انضم الهولندي دي ليخت إلى برشلونة خلال الميركاتو الشتوي، الذي سيشكل ثنائياً رائعاً برفقة الوحش الكاسر للهجمات صامويل أومتيتي، وألحّ على استقطاب بديل للفيراري جوردي ألبا الذي يقدّم أداءً مبهراً.
خطة برشلونة في اللعب مع فالفيردي صارت شبه مكشوفة، ولم يعد من الصعب اقتحام حصنهم عنوةً. المدرب تحس به كأنه خائف لا يمتلك الجرأة في تجريب عملية المداورة. ينقص برشلونةَ مهاجم فتاك لا يرحم الشِّباك، مثل ليفاندوفسكي، ولوكاكو، وإيكاردي.. يجب جلب مهاجم من طينة الكبار، سواريز يقدم ما لديه في مباراة، فيتراجع في ثلاث، هذا راجعٌ لعامل السن.
صار برشلونة يعاني الأمرّين، لم نعد نكترث لمبارياته، نسأل عن النتيجة ومن سجّل فقط، لأننا نبحث عن المتعة الكروية ولكن للأسف فقدناها، وصرنا نتمنى أن يعود مجد برشلونة الكروي، وأن يتربّع من جديد على عرش الكرة الأوروبية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.