يمكن القول إن العملية الجارية حالياً لتعديل الدستور في مصر (دستور 2014) هي أحد أهم مفترقات الطرق التي يواجهها نظام 30 يونيو/حزيران منذ نشأته، بل يمكن اعتبارها ثاني أهم محطاته بعد انقلاب 3 يوليو/تموز نفسه، ذلك التعديل الذي يسمح للرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، بالبقاء في منصبه حتى عام 2034، في حين كان الدستور بوضعه الحالي وقبل التعديلات المقترحة يُلزم السيسي تسليم السلطة إلى رئيس جديد بنهاية فترته الرئاسية الحالية في عام 2022.
تثير تلك التعديلات والرغبة المتعجلة في تمريرها، في ظل بقاء 3 سنوات كاملة للسيسي بفترته الرئاسية الثانية والأخيرة، بعض التساؤلات. فبينما أرجعها البعض إلى أسباب داخلية، سياسية واقتصادية، تتعلق بالرغبة في تمرير التعديلات في ظل وجود البرلمان الحالي بتشكيلته التي يسيطر عليها موالون للنظام، وكذلك قبل الشروع في موجة تقشفية جديدة اقتصادياً بحلول الصيف القادم وخشية تأثيراتها بزيادة الغضب الشعبي، يرى آخرون أن سبب تلك العجلة هو رغبة النظام -والسيسي شخصياً- في تمرير التعديلات قبل انتهاء الفترة الرئاسية الأولى -وربما الأخيرة- للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يعد أكبر الداعمين والمزكّين للسيسي ونظامه على المستوى الدولي، والذي يواجه بدوره مشكلات خطيرة قد تطيح به شخصياً قبل استكمال مدة فترته الرئاسية الأولى التي ستنتهي في أوائل عام 2021، ومن غير المرجح أن يعاد انتخابه؛ في ظل الأزمات التي تحاصر إدارته، وفي ظل سيطرة خصومه الديمقراطييين على مجلس النواب ونسبة كبيرة من دوائر صنع القرار الأمريكية.
في كل الأحوال، فإن تمرير تلك التعديلات بصورة نهائية -إن تمت وفقاً لرؤية النظام- سيعني بداية مرحلة جديدة لنظام السيسي (الذي يعتبره البعض امتداداً طبيعياً لنظام يوليو/تموز 1952 العسكري)، مرحلة يمكن أن نطلق عليها "مرحلة الحسم"، حسم الصراع السياسي بشكل شبه نهائي مع القوى المعارضة بشقيها المدني والإسلامي بمزيد من القمع، وربما على مستوى أعلى من الحاصل في السنين الأخيرة، وحسم آخر للملف الاقتصادي باستكمال بقية برنامج صندوق النقد الدولي لهيكلة الاقتصاد المصري، والقاضي برفع نهائي للدعم عن المحروقات وبقية الخدمات الحكومية الأخرى في غضون الأشهر القليلة القادمة، وهي الإجراءات التي تم تأجيلها عدة مرات، لحين استقرار الأوضاع للنظام تماماً، وتبدو الظروف مهيأة تماماً -في حال نجاح تعديل الدستور– لتنفيذها.
السؤال الجدير بالمناقشة هنا هو: هل تعديل الدستور مسألة حتمية محسومة؟
تبدو الإجابة عن هذا السؤال بالغة الصعوبة رغم سهولتها الظاهرة، فبينما تبدو كل الأمور مهيأة إجرائياً لتمرير التعديلات، في ظل سيطرة النظام على كل أدوات القوة والتأثير المجتمعية، سواء في البرلمان أو وسائل الإعلام أو الجهازين الأمني والقضائي، فإن بوادر تململ شعبي ورسمي قد ظهرت في الأيام الأخيرة، كان أهمها تلك الحملة الكبيرة التي دشنها عدد من قيادات المعارضة لرفض التعديلات، وكان من اللافت بروز اسم الدكتور محمد البرادعي النائب السابق للرئيس المؤقت عدلي منصور والرئيس الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي غرد عدة مرات على موقع التدوينات القصيرة "تويتر"، وبلهجة غير معتادة منه منذ مغادرته مصر في صيف 2013، محذراً من مغبة إقرار تلك التعديلات وخطورتها على بنية الدولة، ومذكراً بنص المادة 226 من الدستور، التي تحظر تعديل المواد المتعلقة بطريقة انتخاب رئيس الجمهورية إلا بإضافة مزيد من الضمانات إليها، وهو ما لا يبدو متحققاً أبداً بتأبيد بقاء السيسي في الحكم 15 عاماً قادمة، وكذلك انتشرت في الأيام التي تلت إعلان بداية مناقشة مجلس النواب التعديلات بعض الأخبار والبيانات التي تؤكد وجود غضب في الأوساط القضائية من التعديلات المقترحة على النظام القضائي وبما يضمن سيطرة مطلقة لرأس السلطة التنفيذية على القضاء بإلغاء المواد كافةً التي تضمن استقلاليته في تعيين قياداته وتسيير أموره، بل حتى من بعض نواب البرلمان أنفسهم، الذين أعلن بعضهم رفضهم التعديلات وصوَّتوا عليها بالرفض في التصويت المبدئي بالبرلمان. كل ذلك بالتوازي مع حملة دشنها شباب المدونين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي لرفض التعديلات، والدعوة إلى التصويت عليها بـ "لا" باعتبار ذلك خياراً أكثر تأثيراً من خيار المقاطعة، التي لم تجنِ ثمارها المرجوة في التجارب الأخيرة، سواء في انتخابات الرئاسة 2014-2018 أو حتى الاستفتاء على إقرار الدستور المقترح تعديله ذاته عتام 2014.
ختاماً، يمكن القول إنه أياً كانت النتيجة النهائية التي ستؤول إليها الأمور في هذا الملف الشائك، فإن تبعاتها وتأثيرتها الداخلية والإقليمية ستستمر فترة طويلة قادمة، إما بترسيخ حكم السيسي وتقوية أركان المعسكر الذي ينتمي إليه بصفة نهائية كما سبق القول، وإما بهزة عنيفة يتعرض لها النظام ربما تخلخل أركانه ولو لم تُسقطه، في حالة رفض التعديلات أو حتى اتجاه نسبة معتبرة من المواطنين إلى التصويت بـ "لا"، حتى في حال تمرير التعديلات!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.