يؤسفني كثيراً، بشيء من الألم، أن تمضي النقابات المغربية على هذا النهج، أن تلعب على وتر "الحصان المروّض" وألا تستطيع البوح بشرارة الغضب الساكنة وسط إطاراتها الفرعية المهمَّشة. وأن تسير على نهج من الحذر يتزعمه الخوف؛ الخوف من السلطة، والخوف من "الباطرونا" والخوف من "الحكومة" والخوف من صاحب الشركة والخوف من "خذلان الحياة"، وينتقل ذلك على ما يبدو إلى الخوف عن المصلحة، حتى أصبحت "البرغماتية" مرجعاً نقابياً في بلادنا يُدرس في الدورات التكوينية النقابية.
على ما يبدو لا ذنب للنقابات، نحن في بلاد قبضة سلطتها من حديد، والحريات مقيّدة إلى درجة ألا يستطيع نقابي شهم أن يقول "إنها كذلك" اللهم إذا استقوت النقابات ببعضها البعض على شاكلة "حمية"، وزعمت إمضاء بلاغ بالكثير من التوقيعات وسطور من التنديدات.
على مستوى النضالات العمالية المحلية، يتضح جلياً كم أصبحت هذه الإطارات التي كان اسمها يترك رعباً شامخاً لدى الحاكمين، أنها باتت أهون من بيت العنكبوت. تخيل أن يخاف نقابي من عقد لقاء مع صحفي في علن؟ لأن مؤسسته التي ينتمي لها تفرض طوقاً عسكرياً على المعلومة، ويُصبح هذا النقابي حريصاً على مؤسسته أكثر من أيّ مدير في منصب شركته أو مؤسسته.. إنه الترويض يا قوم.
مشكلة النقابات عندنا، هي مشكلة مشهد سياسي برمّته، وصلت أزمته إلى حدّ أن يتدخل الملك لمطالبة النقابات والحكومة بـ"الرجوع إلى الله"، هذه النقابات التي يتزعم أغلبها قيادات من المتقاعدين على مشاريف السبعين والثمانين، تفاوض هي وحدها على جلسات العشاء والغداء، وتخاف بدورها كثيراً من "قانون حول النقابات يُنظم النقابات" والحكومة استشعرت هذا "الفيس" فيهم، وكلما تقدموا إلى برامج تصعيدية هددتهم به، قبل أن يتراجعوا سريعاً.
النقابات هذه الأيام تدعو إلى إضراب عام، لكن هذه "التهليلات" يعرفها العمال أكثر من المواطن العادي أنها مجرد صيحات عابرة، حتى بات الأجراء يتخوفون من بيع "الماتش" من وراء ظهورهم، في أول ضربة جزاء لصالحهم…
في المغرب لا أحد يعرف الوصفة المستخدمة لإجهاض التنظيمات القوية، حتى تتم تصفية المناضلين والنزهاء، ويجري تغييرهم بالعملاء والمخبرين والمندسين الذين يحرصون جيداً على عملية التدمير من الداخل بعدما نجحت من الخارج. مشكلة بلادنا أحياناً، هي أن هناك من يُريد أن يجعل الكل تحت سيطرته، ولكن، هذا من المحال، النور وحده له الخلود.
كان الراحل الحسن الثاني، كما يُقال، حريصاً على أن يقيس مستوى "الاحتقان" في البلاد من خلال النقابات، باعتبارها الميزان الذي يؤشر له كرئيس دولة على مستوى هذا الاحتقان، عوض تكليف مكتب دراسات لإحصاء الفقراء بألفَي مليار درهم، جرى استخدام هذا الميزان، لم يتردد الصحفي "جيل بيرو" حينما قال إن الملك الحسن الثاني طلب من وزير داخليته البصري، إخراج النقابات للاحتجاج، لأنه يُريد قياس البلاد، التي عاشت آنذاك "زمن من الصمت والسكون الرهيب".
لم يعد المغرب في حاجة إلى مسكّنات ولا مهدئات، يحتاج المغرب بكل صدق، إلى إفراغ معدته من السموم والبكتيريا حتى يغدو في صحة جيدة. ادعموا المغرب عبر المساهمة في إفشاء الحقيقة وليس غيرها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.