كيف تتحرك اليابان للتضييق على الصين اقتصادياً؟

عدد القراءات
1,749
تم النشر: 2019/02/15 الساعة 17:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/02/16 الساعة 08:24 بتوقيت غرينتش
الرئيسين الصيني والياباني

في عام 1968 حلَّت اليابان كثاني أقوى اقتصاد عالمي بناتج محلي 142 مليار دولار بعد إزاحة فرنسا التي تراجعت إلى المركز الثالث بنحو 128 مليار دولار.. حينها كانت الصين في المركز السادس اقتصادياً بنحو 71 مليار دولار فقط، ومن وقتها ظلَّت اليابان محتفظة بمركزها المرموق بعد الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2010 الذي تغيَّرت فيه الصورة تماماً، حيث واصلت الصين نموها الصاروخي لتحقق ناتجاً محلياً إجمالياً بنحو 5900 مليار دولار، مقابل اليابان التي حلَّت ثالثاً بنحو 5500 مليار دولار.

ومنذ عام 2010 وحتى اليوم ضاعفت الصين تفوقها الجامح وصولاً إلى حدود 12300 مليار دولار مع توقّعات متنامية بتجاوزها الولايات المتحدة اقتصادياً بحلول عام 2025، بينما تراجعت اليابان مع احتفاظها بالمركز الثالث منفردة وبالرابع بعد الاتحاد الأوروبي إلى نحو 4900 مليار دولار.. ومن  الطبيعي جداً أن يفرز هذا المشهد الكبير حرب تكسير عظام بين الفيل الأمريكي والتنين الصيني من جهة، وتحالفاً ضرورياً بين اليابان والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.. وهو ما يحدث بالفعل حالياً.

وليس أدل على ما سبق إلا نشوب الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد الصين لأسباب متشابكة من طغيان الفائض التجاري مع بلاده لصالح الصين بأكثر من 293 مليار دولار، مروراً بطبيعة النظام السياسي والاقتصادي للصين، الذي يسحق في طريقه كل التفوق الأمريكي المستمر منذ عقود طويلة، وصولاً إلى الحقيقة القريبة التي تشير بقوة إلى اعتلاء الصين قمة الاقتصاد العالمي.. هنا تبدو الحرب التجارية بين الندين ساحة مناسبة جداً للتفاهم الشاق على توزيع الأدوار في الأجل القريب.

ومع استمرار حلقات التناطح الأمريكي الصيني يتفاعل العالم من حولهما عبر القوى الأخرى خشية تصلب المواقف واستغلالاً لما يحدث واستباقاً لنتائج غير مرغوب فيها قد تفرض نفسها عليهم في أي وقت.. لهذا تتحرك اليابان الآن مع لاعب إقليمي صاعد وهو الهند، ومع لاعب دولي مخضرم وهو الاتحاد الأوروبي، لعدة أسباب، أولها مواجهة الصين على أكثر من جبهة، وثانيها مناورة الولايات المتحدة بهدف التخلص التدريجي من هيمنتها عليها، وثالثها أن تعود اليابان بعد عقود وعقود إلى دور الوصيف المناسب لها في الاقتصاد العالمي.

كيف تتحرك اليابان لمواجهة الصين؟

الإجابة الأخيرة لهذا السؤال جاءت في الأول من فبراير/شباط 2019 حيث تم توقيع "اتفاقية التجارة الحرة الأوروبية اليابانية" التي تمثل أكبر منطقة للتجارة الحرة المفتوحة في العالم بتغطية ثلث الاقتصاد العالمي لنحو 635 مليون نسمة الذين سيتنفسون مناخاً اقتصادياً جديداً بتعريفات جمركية متدنية للغاية، في الوقت الذي يشهر فيه ترامب والصين أسلحة التعريفات الجمركية في وجه الاقتصاد العالمي ككل.

الاتفاقية الأوروبية اليابانية تمحو نحو 94% من الرسوم الجمركية على واردات الاتحاد الأوروبي إلى اليابان، مما يوفر على الشركات الأوروبية نحو مليار يورو سنوياً من الرسوم الجمركية.. وفي المقابل تتمتع واردات اليابان إلى الاتحاد الأوروبي بتخفيض بنحو  99% من الرسوم الجمركية، على أن يتم إلغاء الرسوم كاملة على بعض المنتجات منها "الأجهزة الإلكترونية والسيارات" بين عامَي 2024 و2026.

هنا تنظر الصين بعين القلق البالغ لتلك الاتفاقية الضخمة التي بخلاف فوائدها الهائلة لأطرافها تركز على معايير مهمة من حقوق العمال وحماية الملكية الفكرية وحقوق المستهلكين ومنافسة الجودة العالية للمنتجات الأوروبية واليابانية بأرخص الأسعار،  وهي معايير لا تطبقها الصين بالشكل الصحيح وتفرز ضدها اتهامات كثيرة ومتكررة من أمريكا ترامب، مروراً بألمانيا ميركل زعيمة الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى هند مودي ويابان شنزو أبي.

هنا لنا وقفة للعودة إلى الوجوه المتعددة الأخرى في الإجابة عن سؤال مواجهة اليابان للصين، ولكن من نواحٍ استراتيجية وجيوسياسية، يأتي أهمها كما يلي:-

أولاً: أمام مشروع الصين العملاق "مبادرة الحزام والطريق" الذي يغزو أكثر من 56 دولة حول العالم، نجد مشروع اليابان والهند المعروف باسم "ممر التنمية الآسيوي الإفريقي" الذي يحوي مساحة مهمة تمر عبرها نصف حجم التجارة العالمية حيث الربط بين المحيط الهندي وقارة إفريقيا عبر مسارات الاتصالات والنقل الجوي والبحري، وبناء قواعد صناعية على الساحل الشرقي لإفريقيا، باستثمارات يابانية أولية تصل إلى 200 مليار دولار.

هنا يظهر الفارق في التفكير بين اليابان التي تموّل مشروعها مع الهند عبر مؤسسات مصرفية تستثمر فوائضها، وبين الصين التي تحمل حكومتها مباشرة على عاتقها تمويل مشروع الحزام والطريق.. وهذا جانب مهم في منافسة واستدامة المشروعين المتقاطعين.

ثانياً: في مواجهة مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان  بتكلفة 75 مليار دولار، والذي يربط شمال غرب الصين بميناء جوادار الباكستاني بأحدث شبكات للطرق وأنابيب الطاقة والسكك الحديدية لعبور بضائع الصين إلى الشرق الأوسط بالاعتماد الكامل على اليوان الصيني في إتمام المعاملات التجارية.. نجد اليابان والهند حاضرتين بخططهما البديلة والمنافسة للممر الاقتصادي عبر مشروع توسيع وتطوير ميناء تشابهار الإيراني بمساهمة هندية بلغت نحو 500 مليون دولار للاستغناء عن موانئ باكستان، لتمرير تجارة الهند إلى الشرق الأوسط عبر الميناء الإيراني المهم الذي تدعمه اليابان بكافة خبراتها التقنية والإنشائية في البنى التحتية.. وهو الأمر الذي يعطل خطط مبادرة الحزام والطريق الصينية في إيران من ناحية ويشغل الصين بإعطاء الأولوية لنزاعاتها الحدودية مع الهند وباكستان من ناحية أخرى.

ثالثاً: على المسرح الخلفي في آسيا تدور منافسة شرسة تحت السطح بين اليابان والصين على موانئ الدول الآسيوية في كل من "بنغلاديش وسريلانكا ونيبال وميانمار وتايلاند"؛ حيث ضخت اليابان في ميناء ماتارباري – بنغلاديش استثمارات  بنحو 3.7 مليار دولار.. وتعمل على تطوير ميناء ترينكو مالي – سريلانكا باستثمارات تبلغ 1.8 مليار دولار.. بالإضافة إلى رعايتها للمنطقة الاقتصادية بين ميانمار وتايلاند بنحو 2 مليار دولار.. هذا بالطبع مع التواجد الصيني في تلك الدول باستثمارات مقاربة لاستثمارات اليابان التي تتوسع  وتنافس بشكل ندّي للغاية أمام جارتها الكبيرة جداً الصين.

أخيراً.. "بدأنا نبصر أنوار الشموع الآن"، هكذا تتحدث الصحافة اليابانية عن صحوة بلادها في مواجهة الصين.. فهل تستطيع الشموع اليابانية مواصلة وهجها الساطع في وجه الصين التي تسبقها بمركز واحد في الترتيب العالمي وبنحو ثلاثة أضعاف في ناتجها المحلي؟! ربما.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد مهدي عبدالنبي
باحث اقتصادي ووسيط مالي بالبورصة المصرية
محمد مهدي عبدالنبي من مواليد 2 مارس 1983. كاتب اقتصادي، وخبير أسواق المال العالمية، ووسيط مالي معتمد بالبورصة المصرية منذ العام 2006.
تحميل المزيد