"أكثر كلمة بطولية في كل اللغات هي كلمة "ثورة"- يوجين ديبس، سياسي أميركي.
نتذكرها فتبدو كأنها صورة مشوَّشة تنتمي إلى ماضٍ بعيد، وأحياناً حلم حلو المذاق لم نضع له بداية أو نرسم له نهاية، ولكن الأمر ليس كما في الروايات.
الرومانسية، فقد أفقنا على لم ما لم يكن سوى أضغاث أحلام مليئة بالآلام والذكريات المرعبة.
"في الثورة، كما في الروايات، الجزء الأكثر صعوبة هو ابتكار نهاية لها"- ألكسيس دي توكفيل، فيلسوف فرنسي.
في عامها الثامن تقف ثورة 25 يناير/كانون الثاني -كما في الأفلام السينمائية- كرمزٍ أو تمثال في منتصف ساحة كبيرة يجتمع عندها الناس، لكل شخص هدف مختلف، فهناك مَن يتعبَّد أمامها، وهناك مَن يرجمها، وهناك مَن يرثيها، وهناك مَن يتمنَّى زوالها واختفاءها تماماً.
"لا يوجد مَن يؤسس ديكتاتورية لحماية الثورة، ولكن يوجد مَن يقوم بثورة لتأسيس ديكتاتورية"- جورج أورويل، روائي إنجليزي.
أما مَن يتمنَّى زوالها فهو فريق الطبقة الحاكمة، الذي لم يعد يعلم ما الذي يريده حقاً، والذي يرى في 18 يوماً ثورة "بُعبع" يهدد عرشه، فيحاول بكل الطرق إزالة هذا الرمز وكسره.
8 سنوات مكللة بالفشل هي النتيجة الوحيدة لأفعال ذلك الفريق، فحتى وإن لم يعد أحد يتحدَّث عن الثورة أو صار الحديث عنها مجرد اتهامات ولعنات، فالجميع يعلم أن ما نعانيه الآن ليس سببه الثورة، بل سياساتهم الخاطئة.
"كل ثورة لها ثورة مضادة، وهذه علامة على أن الثورة حقيقية"- سي رايت ميلز، كاتب أمريكي.
المهاجمون "اللاعنون، الشتامون" الفريق الثاني الذي لا يتوقف عن رجم الثورة وإلصاق التهم بها، وهو لا يفعل ذلك اعتباطاً، بل يخطط لمكاسب مما يفعله، وهي أن يحظى بالقبول والرضا من الطبقة الحاكمة، أو للتعبير عن الغضب من فقدان امتيازاته بعد الثورة.
"الثورة ليست هدفاً في حد ذاتها"- إرنست ماندل، كاتب بلجيكي.
الثالث هو الفريق المتعبد في محراب الثورة، ولا يرى فيها سوى فعل الثورة، وما حققته خلال الـ18 يوماً، مؤمن بفكرتها، لكنه لم يفكر مرة في تقييم الظروف المحيطة بها، أو دراسة تأثيرها، أو التعامل مع نتائجها، وكل عام يأتي ليقدم القرابين لثورته المجيدة دون فعل شيء جدي لها.
"من يقومون بثورة إلى منتصفها فقط، إنما يحفرون قبورهم بأيديهم"- جورج بوشنر، كاتب ألماني.
أما الفريق الرابع فهو الأعظم ألماً، مَن شارك في الثورة، واختبر نتائجها، واجتهد قولاً وفعلاً فيها، فقد عايش كل التحولات العظيمة لها، ووثق في قوى سياسية مختلفة انتهت كلها بخذلانه، وهو الفريق المنبوذ الذي يتعرَّض للعنات من حوله، ولجأ إلى رثاء الثورة بسبب معرفته بمفاتيح نجاحها دون القدرة على إدارتها.
في عامها الثامن لم تعد ثورة يناير مجرد ذكرى لثورة حالمة في وطن أفضل، بل عِبراً كالخمر المعتق نتجرعه على رشفات، لم يُستخرج من حبيبات العنب الطازج، بل من محصول الألم بعد جمعه وعصره في مصنع الزمن، ودروساً ترسخ بقوة -وإلى الأبد- بين جنبات العقل والقلب، تشبه في قيمتها الذهب الذي تم صهره، لكن في نيران اليأس والهزائم المتلاحقة.
ودروس يناير لم تقتصر على الساسة أو الأوساط المثقفة، بل تلقَّاها رجل الشارع العادي والشباب الذي فهم وفند ما حدث خلال الثورة، وما تلاها من أحداث، فكانت هناك 6 دروس -خلال 8 سنوات- أدرك الجميع متأخراً أن الانتباه إليها كان شرطاً لنجاح الثورة، ولا بد من العمل بها إذا ما سنحت الفرصة لأخرى، أول درس كان:
1- سقوط الرموز
لم يعد يوجد آلهة في الحياة السياسية المصرية، فالسقوط في بئر الانتهازية السياسية أو ارتكاب الأخطاء القاتلة لحلم الثورة هو ما فعله الكثير من السياسيين طوال الـ8 سنوات الماضية، فصارت المواقف والأفعال فقط هي التي يتم الحكم بناء عليها، بلا تمجيد مسبق.
2- الأحلام لا تغير واقعاً
هو الدرس الثاني الذي ما زلنا نتعلمه ببطء، فالحلم لصنع واقع مختلف بعيد عن نظام مبارك وما أفسده، غير صالح إذا كان من دون ركائز أو أدوات ومنهج مدروس لتحقيقه.
3- شتت ثوارك، فتخسر ثورتك
لم يحتَج أنصار الثورة المضادة إلى فعل شيء لهزيمة الثورة، فقد قدمه لهم شباب الثورة على طبق من ذهب، وهو غياب صوت واحد ينوب عن كل الثوار، وعدم الاتفاق على مطالب سياسية محددة لتنفيذها، أبرز مثال ساخر على ذلك تكوين أكثر من 350 حزباً باسم شباب الثورة، عقب إزاحة نظام مبارك.
4- الثورة ليست فعلاً ثورياً فقط
قد تكون الثورة هي الطريق الأول للتغيير، لكنها ليست الوحيد، فقد رأى رجل الشارع أنه لا يوجد اهتمام بما بعد الفعل الثوري، أو بناء نظام جديد فقط كل أسبوع "مليونية" جديدة، فنفر من كلمة ثورة وكل ما يرتبط بها.
5- التشاؤم يقتل أي شيء حتى الثورات
تقول السياسية روزا لوكسمبورغ: الثورة هي النوع الوحيد من الحروب التي لا يمكن تحقيق النصر فيها إلا عن طريق سلسلة من الهزائم، ولكن الثوار مع أول هزيمة دخلوا في مرحلة رثاء وتشاؤم غير مبررة، ولم يلتفت أحد كمثال إلى الثورة الفرنسية التي حقَّقت أول أهدافها بعد 10 سنوات كاملة.
6- ثورة بلا جماهير، ثورة لا يعول عليها
تعالِي الثوار على الجماهير العامة، ومخاطبتهم من أبراج عالية، جعل الثورة تخسر أهم داعميها وهم البسطاء، فكما يقول جورج أورويل في رواية 1948: "إن كان هناك أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.