أثار قرار رقم (57) لسنة 2016 بشأن تشكيل المحكمة الدستورية العليا عدة ملاحظات من قبل بعض المؤسسات الحقوقية والأوساط القانونية بعد صدوره.
ومن أجل تقييم تجربة عمل المحكمة الدستورية العليا لا بد من إطلالة على الإطار القانوني الناظم لعمل تلك المحكمة.
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى قانون رقم (3) لسنة 2006 الذي تم بموجب أحكامه تنظيم المحكمة الدستورية العليا من حيث تشكيلها، واختصاصاتها، والإجراءات المتبعة أمامها. وأهم ما تضمنه القانون المذكور النص على أن المحكمة الدستورية العليا هي هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها في فلسطين. كذلك، تضمن القانون المذكور النص على أن اختصاصات المحكمة الدستورية العليا تنحصر في الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، وتفسير نصوص القانون الأساسي والقوانين في حالة التنازع حول حقوق السلطات الثلاث في الدولة (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية) وواجباتها واختصاصاتها، والفصل في تنازع الاختصاص بين الجهات القضائية وبين الجهات الإدارية ذات الاختصاص القضائي، والفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صادر أحدهما من جهة قضائية أو ذات اختصاص قضائي والآخر من جهة أخرى، والبت في الطعن بفقدان رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الأهلية القانونية.
وصدر في العام 2017 قرار بقانون رقم (19) لسنة 2017 بشأن تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا سالف الذكر. وتضمن هذا التعديل بعض الأحكام أهمها إعادة تنظيم موضوعة تعيين وتشكيل المحكمة، والشروط الواجب توافرها فيمن يتم تعيينه عضواً بالمحكمة من قضاة ومحامين وأكاديميين، وأحكام أخرى ذات علاقة بممارسة المحكمة لصلاحياتها في الحكم بعدم دستورية أي قانون أو مرسوم أو لائحة أو نظام.
وفي الواقع العملي، يلاحظ أن المحكمة الدستورية العليا باشرت وفقاً لأحكام القانون سالف الذكر النظر في القضايا التي عرضت أمامها، وهو ما أثار حفيظة بعض الجهات الحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني من جانب، وبعض الأوساط القانونية، خصوصاً بعض المحامين المزاولين، من جانب آخر. ودون الخوض في مضمون تلك القرارات، على أهميتها، لا بد من التأكيد هنا على حق كل مواطن ومواطنة سواء كانوا يعملون في الحقل القانوني أو في غيره في التعليق على الأحكام الصادرة عن المحاكم الفلسطينية المختصة، ما يشمل تلك الأحكام الصادرة عن المحكمة الدستورية العليا، تأسيساً على مبدأ دستوري راسخ يكفل حرية الرأي والحق في التعبير وفقاً لأحكام القانون الأساسي المعدل لسنة 2003.
ولا بد من التأكيد أيضاً على أن قيام المحكمة الدستورية العليا بممارسة صلاحياتها في الواقع العملي كان مطلباً ليس فقط على المستوى الحقوقي، لا بل وعلى المستوى الشعبي في بعض الحالات، من أجل ضمان وجود هيئة قضائية مستقلة تقوم بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة من جهة، وفض حالات التنازع بين السلطات الثلاث من جهة أخرى. وقد أثبتت المحكمة الدستورية العليا كفاءتها في هذا السياق من خلال إصدار بعض القرارات التي نصت على عدم دستورية بعض أحكام القوانين سارية المفعول، ما يشمل قرارات بقوانين، كالقرار التفسيري الصادر في شهر يناير/كانون الثاني 2017، القاضي بعدم دستورية بعض أحكام قرار بقانون رقم (61) لسنة 2010 بشأن تحديد الراتب والحقوق المالية لرئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية، وعدم دستورية بعض أحكام قرار بقانون رقم (2) لسنة 2010 بشأن المصادقة على قرار تحديد الراتب والحقوق المالية لرئيس ديوان الرقابة المالية والإدارية، واحتساب الفروقات المالية لوزير الأوقاف والشؤون الدينية ما بين الراتبين من هيئة التقاعد العام.
إضافة إلى قرار المحكمة الدستورية العليا التفسيري الصادر في شهر سبتمبر/أيلول 2018، حول الطبيعة القانونية لجهاز الشرطة الفلسطينية والقاضي بإبطال قرار بقانون رقم (23) لسنة 2017 الذي اعتبر الشرطة الفلسطينية جهاز قوة مدنية نظامية. ونص قرار المحكمة سالف الذكر على تحديد صلاحيات جهاز القضاء العسكري كجهة مختصة بمحاكمة عناصر الشرطة الفلسطينية حال ارتكاب مخالفات قانونية أثناء تأدية وظائفهم داخل نطاق الشأن العسكري، ما يشمل تلك التي تمس بالضبط والربط العسكري. وجاء ذلك متوافقاً مع ما كان مطبقاً في الواقع العملي حتى عهد قريب، أي قبل صدور قرار بقانون رقم (23) لسنة 2017، حيث كانت تتم محاكمة أفراد الشرطة الفلسطينية ممن يرتكبون جرائم داخل نطاق الشأن العسكري أمام المحاكم العسكرية المختصة، كصاحبة ولاية عامة على كل من يعملون في السلك العسكري، خصوصاً أن جهاز الشرطة يعد جهازاً عسكرياً بموجب قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية رقم (8) لسنة 2005. ناهيك عن أن القانون الأساسي المعدل لسنة 2003 اعتبر في المادة (84) منه قوات الشرطة كجزء من القوات النظامية في البلاد يتم تنظيم أعمالها بقانون، سلف ذكره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.