في عام 2017، وقَّعت شركة محاماة أمريكية عقداً مع الحكومة السودانية، للمساعدة في جهود رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت تخنق البلاد منذ عام 1997. وفي ظرف أسابيع، كتب جورج كلوني وجون بريندرغاست، الناشطان الضليعان في مجال حقوق الإنسان في السودان، خطاباً إلى مجلة Time، يعترضان فيه على هذا الإجراء. وطرح الناشطان سؤالاً افتراضياً: "هل الإدارة العليا في الشركة، ومعظمها من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب السابقين، لا تعلم أنَّ نظام الرئيس عمر البشير قد ارتكب فظائع جماعية؟ وأنَّه مسؤول عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين في دارفور؟ وأنَّه أعدم المسيحيين؟" وانتهى الناشطان إلى الجواب المنطقي الوحيد الذي يمكن أن تقدمه شركة تعمل لخدمة نظام بهذا القدر من الهمجية والوحشية: "ربما لا يعرفون كل هذه الأمور".
رُفعت العقوبات، غير أنَّ هذا لم يُحدِث فارقاً كبيراً، فقد نسي العالم السودان، ولم يكن ثمة ما يدفعه إلى تذكّره. فكل ما التصق بهذا البلد، وعبَّر عنه خطاب كلوني/برينديرغاست ببلاغة، كان من الأمور التي تشمئز لها النفس. لذا دعوني أذكركم إذا سمحتم: على مدار الأسابيع الأربعة الماضية يشهد السودان انتفاضة شعبية قام بها شعبٌ يرزح تحت نير ديكتاتورية وحشية منذ 30 عاماً، ويعاني تبعات ماكينة حقوق الإنسان الدولية التي تجاهلت وجوده لمدة 20 عاماً.
في نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول، بدأ اندلاع التظاهرات المحتجة على تزايد معدلات التضخم. وبدأت التظاهرات صغيرة، ولكن غاضبة، ثم انتشرت. زاد زخمها، وازدادت استجابة الحكومة لها توحشاً. تحوّل ترهيب المتظاهرين إلى سجن وضرب، وتحوَّلت قنابل الغاز المسيل للدموع إلى رصاصٍ حيٍّ. وأدَّى إطلاق الرصاص على طبيب شاب كان يساعد المتظاهرين المصابين، الأسبوع الماضي، إلى احتشاد الأهالي خارج المستشفى الذي مات فيه. وهتفت الجموع بغضب وحزن حتى ساعات الصباح الأولى. وفي جنازة الطبيب الشاب حلَّ التصميم محل الخوف، وتحولت المراسم إلى تظاهرة أخرى.
ومع كل يوم تخرج حكايا جديدة بالفقد وسفك الدماء، ومقاطع فيديو لأمهات ثكالى ينتحبن وهنَّ يستقبلن جثامين أبنائهن، كل ذلك لم يثنِ الشعب السوادني عن مغادرة البيوت وأماكن العمل، والتظاهر وسط وابل من الرصاص الحيّ وقنابل الغاز. لم يعد الأمر يخص التضخم، فعلى مدار السنوات الـ30 الماضية وقع السودان في براثن الفساد والانقسام العرقي وإفقار البلاد لصالح قلة من المنتفعين، والقمع الديني، وفوق ذلك كله لم تكن البلاد تعرف سوى الموت، والكثير من الموت. في الحروب التي اندلعت في جنوب البلاد وشرقها وغربها، وفي "بيوت الأشباح" وزنازين التعذيب الحكومية، وفي أروقة المستشفيات التي قضى فيها الأطفال نحبهم بسبب نقص إسطوانات الأكسجين. بلغ السيل الزبى، ولم يجد الشعب السوداني متنفساً لغضبه المتصاعد سوى بالتدفق إلى الشوارع، ليعصف بالحكومة وقوات الأمن، ويهدد بقاءهما تهديداً حقيقياً للمرة الأولى.
ومع ذلك، لم تحرك جماعات حقوق الإنسان المعنية بالسودان، التي عملت على إصدار مذكرة اعتقال بحق البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وحشدت حتى اللحظة الأخيرة ضد رفع العقوبات، ساكناً. في تلك اللحظة باتت الحكومة أقرب ما تكون للانهيار والسقوط، وليس ثمة أثرٍ على الساحة لمن يُفترض أنَّهم حاربوا لسنوات للوصول إلى هذه اللحظة.
على مدار العقدين الماضيين كان السودان وحكومته المتقلبة الشغل الشاغل للعاملين بحقوق الإنسان، لم تكن ثمة قضية أخرى يدافع عنها من يحبون السير مع الرائجة، تحولت وحشية الحكومة إلى قصص تُروى في المحافل الدولية، ولكل قصة تمويلها ومَن يروّجون لها، والحملات الإعلامية الحاشدة وراءها. يجب إنقاذ الجنوب المسيحي من الشمال المسلم المتوحش، ومن هنا وُلدت دولة جنوب السودان من رحم جماعات الضغط المسيحية والمشاهير المروجين لها.
وفي دارفور، نظام عربي مؤمن بالتطهير العرقي يستضعف القبائل الإفريقية، وهو أمرٌ حدث في أجزاء أخرى من البلاد أيضاً، مثل جبال النوبة وإقليم كردفان. تعزَّزت ثنائية العرب/الأفارقة من ارتباط الحكومة بأسامة بن لادن في التسعينات من القرن العشرين، وهو الارتباط الذي انتهى بوصم البلاد بتصنيف الدولة "الراعية للإرهاب"، المنبوذة من المجتمع الدولي. وبهذا احتشدت الحكومات الغربية وفرضت العقوبات الاقتصادية على البلاد، وانفصل جنوب السودان، وسار ركب حقوق الإنسان مغتبطاً بأداء واجبه الأخلاقي بنبذ الحكومة السودانية من المجتمع الدولي المتحضّر. ولم يلتفت أحدٌ حينها إلى أنَّ العقوبات لا تؤدي أي غرض سوى تقوية شوكة البشير ليخنق الشعب ببطء.
والآن، حين انتفض الشعب أخيراً ليسدد بأرواحه ثمن الإطاحة بحكومة أخفقت العديد من الحملات الغربية في هزيمتها، يبدو أنَّ سوق الأخلاق قد انفضت. لم تعد الحكايات تُروى كما ترون، ولا حديث عن الزاوية العرقية ولا الدينية، ولا ثنائيات يندس بينها المدافعون عن حقوق الإنسان. كل ما هنالك انتفاضة جيدة على الطراز القديم في بلدٍ صحراوي معفَّر لا خير يُرجى من التدخل فيه.
ربما يبدو هذا قاسياً ولاذعاً، ولكن لنفكر في هذه الحقيقة البسيطة. في عام 2008، اجتمعت الآلة السياسية للمهتمين بأمر السودان من المشاهير وأصحاب الكلمة المسموعة بشكل رسمي وشكلت جماعة رصد إفريقية تحمل اسم "Not on Our Watch"، وهو اسمٌ مشتقٌّ من شعار حملته التجمعات الخاصة بدارفور في منتصف الألفية، وأكبرها تجمع عام 2006، وشهد حضور باراك أوباما الذي كان حينها عضواً في مجلس الشيوخ، ونانسي بيلوسي. تأسست المنظمة، بالإضافة إلى منظمتين أخريين على يد جورج كلوني وزملائه الممثلين مات دامون ودون شيدول وبراد بيت. وآخر تحديث يظهر على موقع المنظمة بتاريخ 4 ديسمبر/كانون الأول 2018، ويخص كتاباً جديداً عن الكونغو، يحمل صوراً التقطها الممثل رايان جوسلينغ.
لا أجد جواباً للسؤال عن سبب تجاهل المنظمة ذكر انتفاضة السودان وعمليات قتل المتظاهرين على يد نظام بهذا القدر من الهمجية والوحشية، سوى نفس الجواب البسيط الذي اختاروه هم بأنفسهم: "ربما لا يعرفون كل هذه الأمور".
هذا الموضوع مُترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.