تتواصل تظاهرات السودان في مختلف المدن السودانية منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، ضد حكومة الرئيس السوداني البشير، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات والخبز، بعد تحرير الحكومة لسعر الصرف أواخر عام 2018، حيث وصل سعر الدولار الأمريكي إلى 45 جنيهاً سودانياً، بينما وصل في السوق الموازية 70جنيهاً، مما أدى لموجة كبيرة من التضخم، صاحبَها ارتفاع جنوني في الأسعار.
ترجع جذور الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها السودان إلي انفصال جنوب السودان عام 2011، حيث خسر السودان ثلاثة أرباع النفط الذي كان يشكل نصف الميزانية في العقد الماضي، حيث يعتمد الاقتصاد السوداني على النفط كمصدر أساسي للدخل، ومع توقف ذلك المصدر تأزم الوضع الاقتصادي تدريجياً منذ ذلك الحين، وأدى لتراجع حاد في قيمة العملة وزيادة في نسب التضخم.
أسباب الأزمات الاقتصادية المتوالية
يعتقد البعض أن السبب الرئيسي في الأزمات الاقتصادية في السودان هو سوء الإدارة وتفشي الفساد والمحسوبية وغياب الشفافية والديمقراطية في ذلك القطر الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية، ربما يكون كل ذلك صحيحاً، لكن السبب الرئيسي هو الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على السودان منذ التسعينات، بعد الانقلاب العسكري الذي قادته مجموعة من ضباط الجيش المحسوبين على جماعة الإخوان بقيادة الترابي، في أواخر عام 1989، بعد أن طلبت أمريكا الإطاحة بحسن الترابي مرتين سابقتين من حكومة النميري عام 1983 وحكومة الصادق المهدي عام 1987، وطالبت بمنع قيادات الحركة الإسلامية من المشاركة في الحكم، وتم التهديد بتسليح الجنوب الطامح إلى الانفصال، حيث يدعم الغرب انفصال الجنوب المسيحي عن الشمال المسلم ويمده بالأسلحة والعتاد من حين لآخر.
كانت الحركة الإسلامية في السودان تُعد خطة بديلة في حال فشل الوصول للحكم بالصناديق، وهي الدفع بأبناء الحركة الإسلامية للدخول إلى الكليات العسكرية منذ الستينات والسبعينات، كما تم تجنيد عمر حسن البشير، أحد عمداء الجيش، صاحب الميول الإسلامية، وتم التجهيز لانقلاب مصطنع في أواخر عام 1989، مهد للإمساك بزمام السلطة من قبل الإسلاميين.
لكن العسكريين المحسوبين على الإسلاميين تفردوا بالحكم ومنعوا القيادات التاريخية للحركة الإسلامية من المشاركة في الحكم وغلبتهم طبيعتهم العسكرية، وتحول السودان تدريجياً لدولة عسكرية فاشلة بنكهة إسلامية.
كما فرض الغرب العقوبات الاقتصادية على السودان منذ عام 1997، وحاول السودان التوجه شرقاً إلى الصين وروسيا، لكن تلك التحركات لم تكن كافية للتخفيف من آثار العقوبات.
دعم الحركات الانفصالية
اتهمت إسرائيل السودان بدعم حركة حماس بعد رفض السودان إغلاق مكتب حماس في الخرطوم، كما قامت الطائرات الإسرائيلية بمهاجمة السودان في 2012 و2015 تحت زعم وجود مخازن للسلاح تابعة لحركة حماس، حيث تتهم إسرائيل السودان بتسهيل نقل السلاح الإيراني لحماس عبر تخزينه في السودان.
ورداً على دعم السودان للإسلاميين دعمت أمريكا عن طريق حلفائها في إفريقيا الحركات الانفصالية في الجنوب والغرب، حيث استقبلت تشاد وليبيا زعيم الحركة الانفصالية في دارفور منذ عام 2003 وقدما دعماً لوجيستياً وعسكرياً لتلك الحركة، واستكمل حفتر ذلك الدور عقب وصوله للسلطة في شرقي ليبيا عام 2013، ونفس الأمر ينطبق على أوغندا في الجنوب، التي دعمت الحركة الشعبية المطالبة بالانفصال في جنوب السودان في الثمانينيات، كما احتضنت مؤتمراً لمتمردي دارفور عام 2013.
السودان يخسر نفط الجنوب
منذ العام 1999 دخل السودان نادي الدول المنتجة للنفط، حيث وصل دخل النفط في عام 2006 إلى 27 مليار دولار، الأمر الذي مكن حكومة السودان من تجاوز أزمة الحصار الأمريكي.
لكن بعد الدعم الغربي للحركات الانفصالية في الغرب والجنوب واستمرار الحرب الأهلية، اضطرت الحكومة السودانية لتوقيع اتفاقية السلام مع الحركة الانفصالية في الجنوب عام 2005 التي تسمح بحكم ذاتي لمدة 6 سنوات، ومن ثم التصويت على الانفصال في 2011 وهو ما حدث فعلاً، وانفصل الجنوب حاملاً ثلاثة أرباع النفط السوداني، الأمر الذي تسبب في حدوث أزمة في الاقتصاد السوداني المعتمد على الصادرات النفطية بنسبة كبيرة.
اضطر الجنوب لتصدير النفط عبر خطوط أنابيب تربطه بميناء بورسودان في الشمال، مقابل رسوم مرور تصل لـ26 دولاراً على البرميل، بالإضافة لدفع تعويضات 3 مليارات دولار كتعويض للشمال عن خسارة النفط.
لكن النفط توقف في عام 2012 بعد رفض جنوب السودان دفع تكاليف المرور، مما حرم السودان من رسوم مرور تصل لـ2 مليار دولار سنوياً، الأمر الذي اضطر السودان لطلب المساعدات الفنية من صندوق النقد عام 2013، مقابل وقف العقوبات الغربية على السودان.
توصيات صندوق النقد
اضطرت حكومة السودان للتفاهم مع الغرب لرفع العقوبات المفروضة، مقابل تنفيذ توصيات صندوق النقد الذي أوصي برفع الدعم وتقليص الدور الاجتماعي للحكومة وتحرير العملة.
ومع بدء تنفيذ توصيات الصندوق تم رفع العقوبات في آخر عهد أوباما، يناير/كانون الثاني 2017، في المقابل انهار سعر الجنيه السوداني أمام الدولار من 7 جنيهات عام 2016 إلى 18 جنيهاً عام 2017.
قاعدة عسكرية مصرية على حدود السودان
أعلن السودان عن تواجد لدبابات مصرية مع المتمردين في دارفور، في مايو/أيار 2017، كما اتهم البشير حكومة السيسي بمد جنوب السودان بالأسلحة والذخائر، فضلاً عن منحهم 5 ملايين دولار كمنحة لا ترد.
ومن جهة أخرى أعلنت مصر في أغسطس/آب 2017، عن إنشاء قاعدة عسكرية في حلايب وشلاتين على ساحل البحر الأحمر، والتي ستكون أكبر قاعدة بحرية في هذه المنطقة، وسوف تضم مطاراً ومهبطاً لطائرات الرفال والميج، كما ستضم بطارية إس 300 ومركز عمليات عسكرية لإدارة العمليات العسكرية المصرية في البحر الأحمر ووسط وشرق إفريقيا، وسترسو فيها الحاملة الميسترال المصرية، بالإضافة إلى بعض القطع المرافقة والغواصات التابعة للأسطول الجنوبي.
التحالف السوداني مع تركيا
بعد تشديد الحصار على السودان من الغرب من جانب تشاد وليبيا عبر الدعم المستمر لمتمردي دارفور، وبعد الدعم المصري لجنوب السودان عسكرياً وسياسياً ومالياً، فضلاً عن إعلان مصر عن قاعدة عسكرية بحرية في مثلث حلايب وشلاتين المتنازع عليه بين مصر والسودان، اضطر السودان للبحث عن دول مناوئة لحكومة السيسي، ووقع اختياره على تركيا، حيث تم توقيع عدة اتفاقيات، في ديسمبر/كانون الأول 2017 تشمل إعطاء السودان جزيرة سواكن لتركيا لإعادة تنميتها وبناء رصيف بحري يصلح لاستقبال السفن العسكرية، وهو ما تأكد بزيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لجزيرة سواكن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
حصار السودان من الشرق
الرد المصري جاء سريعاً حيث تواردت أنباء عن تواجد قوات مصرية على الحدود الشرقية للسودان مع إريتريا، في يناير/كانون الثاني 2018، في ظل وجود قاعدة إسرائيلية في إريتريا، وبذلك يكتمل الطوق من الجنوب والغرب والشمال، ويصبح التحالف السوداني التركي هو الملاذ الأخير.
لماذا يدعم أردوغان البشير؟
في إطار إنشاء تحالفات دولية إقليمية لمواجهة النفوذ الأمريكي والأوروبي في الشرق الأوسط قام أردوغان بالتحالف مع قوى عالمية مثل الصين وروسيا، كما قام بالتحالف مع إيران وقطر كقوى إقليمية مؤثرة، بما تملكانه من قوى ناعمة كالغاز، وفي إطار حماية مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية في شرق إفريقيا تم افتتاح قاعدة عسكرية في الصومال في 2017، وسبقتها قاعدة عسكرية تركية في قطر في 2016، في إطار عمل توازن أمني في الشرق الأوسط مقابل التفرد الأمني الأمريكي بتلك المنطقة الحيوية من العالم.
ومع إنشاء قاعدة بحرية تركية شرق السودان في 2018، تكتمل المنظومة الأمنية للمحيط الحيوي التركي، حيث يمثل البحر الأحمر أحد أهم الشرايين التجارية التي تربط تركيا بشرق إفريقيا وآسيا، خصوصاً مع التوجه التركي لإقامة تحالفات في إفريقيا وفتح أسواق جديدة للاستثمارات التركية في الأسواق الناشئة، حيث تضيف تلك القواعد بعداً أمنياً لحماية تلك التحالفات الجديدة، وتمنع أمريكا وحلفاءها من الانفراد بالبحر الأحمر في ظل أنباء عن اكتشافات كبيرة من الغاز على سواحل السودان.
حيث وقع السودان مع روسيا منتصف 2018 عقوداً للتنقيب عن الغاز في السواحل السودانية، ومن المتوقع تدفق الغاز خلال السنوات القادمة، الأمر الذي يمهد لعودة التدفقات النقدية للسودان مرة أخرى.
قطر والكويت وتركيا تدعم السودان
وتزامناً مع استمرار تظاهرات السودان، أعلن مسؤول سوداني أن هناك عدة دول قدمت دعماً للسودان، من أبرزها قطر، التي منحت السودان مليار دولار، بالإضافة للكويت وتركيا والصين وروسيا.
كلمة أخيرة
تعتبر تحركات أردوغان في السودان والصومال تحدياً لتحالف السيسي- بن زايد، الذي يحاول حصار تركيا في البحر المتوسط عبر إقامة تحالفات استراتيجية مع اليونان وقبرص وإسرائيل، وتقسيم غاز المتوسط بينها بعيداً عن تركيا، فهل تنجح تحركات أردوغان في الساحة الخلفية للسيسي في هزيمة ذلك التحالف، أم ينتصر السيسي أخيراً على أردوغان؟.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.