القادة في أي تجمع بشري هم الهداة والمرشدون والقاطرة الرئيسية التي تشد القطار كله من ورائها إلى الغاية والمقصد.
والقادة في الحركة الإسلامية هم الرأس في الجسد الحركي التنظيمي، وإذا ما فسد الرأس فسد الجسد، وإذا ما ضل الرأس ضل الجسد، وإذا ما تاه الرأس تاه من ورائه الجسد.
واختيار القادة في تنظيمات وأحزاب الحركة الإسلامية يخضع لمعايير هي نفسها المعايير التي يخضع لها اختيار القادة في أي تجمع بشري آخر في غير الحركة الإسلامية.
فالاختيار على أسس معلولة تحدث كثير في الحركة الإسلامية وفي غيرها، كأن يختار المختارون للقادة الأكثر تقليدية وسيراً على سير الأولين، والأقل مناكفة لسابقيهم، والأقل استحداثاً للجديد، والأقل دعوة للتغيير والتطوير.
في كثير من الأحيان يختار المختارون القادة الأبسط عقولاً والأكثر صمتاً وتمريراً للقرارات والتوجهات دون مناقشة ومجادلة.
فمن ناحية يعتبر البعض -في داخل الحركة الإسلامية- أن هؤلاء البسطاء التقليديين الصامتين هم الأكثر إخلاصاً وتجرداً، ومن ناحية يختارهم البعض نكاية في غيرهم من أصحاب العقول والرؤى وحسداً لهم.
لقد ذكر أحد إعلاميي الحركة الإسلامية أنه زار في بلد من البلاد مقراً للحركة الإسلامية فيها، ورأى حينها أحد الأفراد الذين يقومون على خدمة رواد المكان وضيوفه، ثم بعد سنوات زار المقر مرة أخرى، فوجد ذلك الفرد وقد أصبح مديراً له ومسؤولاً عنه.
هكذا كان، مِن قائم على الضيافة يستقبل الضيوف ويقدم لهم الشراب إلى مدير للمقر ورئيس له.
ومن عجب المفارقات أني رأيت بنفسي مشهداً مشابهاً، بل مماثلاً، ففي مقرٍّ للحركة الإسلامية في بلدة من بلادنا، وجدت فرداً يقوم على خدمة المقر، وبعد فترة وجيزة تم اختياره مسؤولاً من مسؤوليه.
فما الذي يحدث؟!
الذي يحدث هو الذي ذكرناه آنفاً، وذكرناه من قبل كثيراً…
أصحاب العقول والرؤى هم أكثر من يجدون عنتاً داخل صفوف الحركة الإسلامية.
يجدون هذا العنت من القادة الكبار لأنهم يرون فيهم خطراً -هكذا يظنون- على الميراث الحركي التنظيمي من الأصول والمنطلقات وحتى الوسائل. كما أنهم يرون فيهم مناكفين غير منقادين ولا مطيعين إلا بصعوبة بالغة، ويرى البعض منهم هؤلاء خطراً على مكانتهم القيادية التي ظلوا قابعين عليها أزمنة مديدة.
ويجدون كذلك هذا العنت من رفقائهم حسداً من عند أنفسهم، لأنهم يرون أنهم إذا خُلّي بينهم وبين الحركة والتنظيم فستكون لهم الغلبة نظراً لإمكانياتهم التي حباهم الله بها من العقل والحكمة والرأي.
ويجدون العنت كذلك من كثير من أفراد الكيان، لأن الكثيرين من أفراد التنظيمات يتربون بقصد وبغير قصد على أن الأكثر صمتاً والأقل نقاشاً وجدالاً هو الأكثر إخلاصاً والأولى بالقيادة والرئاسة.
وإذا قال قائل: إن قيادة التنظيمات والأحزاب الإسلامية تؤول إلى أعلى الأفراد تعليماً، الحاصلين على أعلى الشهادات العلمية، فأين التقليدية والبساطة إذن؟!
لقلنا له: ليس معنى ما نقوله أن كل قيادات الحركة الإسلامية في كافة المواقع والأقطار من التقليديين والبسطاء.
وإن التقليدية والركون إلى الماضي والقائم وعدم إعمال العقول من أجل التجديد والتطوير هي حالة ليست مقصورة على بسطاء العقول، ولكنها حالة قد تطال أقوى العقول تفكيراً وفهماً.
فيحصر الذكي النابه عقله فيما ورثه من سابقيه، ويظن كل الظن أنه ليس أفضل منه، وأن الخطر كل الخطر في التغيير والتطوير الذي من الممكن أن يؤدي للتبديل والتحريف، فيقيد عقله الذي خلقه الله له ذكياً نابهاً حراً في داخل أسوار وحدود تقيد من حريته وتحدّ من انطلاقه فيعود عقلاً بسيطاً تقليدياً لا يختلف كثيراً في نهاية الأمر عن العقل الذي خلقه الله من البداية بسيطاً محدوداً.
الحالة في النهاية واحدة؛ عقول خلقها الله محدودة بسيطة ابتداءً، وعقول خلقها الله ذكية نابهة مبدعة فقيدها أصحابها فانتهت محدودة بسيطة.
أما أصحاب العقول الذكية النابهة المبدعة الذين يأبون هذا التقييد وهذه الأغلال، فإنهم إما ينسحبون من تلقاء أنفسهم جراء ما يجدون من الحروب والمواجهات مع أولئك التقليديين البسطاء.
وإما أن يصرّوا على مواصلة المسير ومحاولات الإصلاح والتطوير، غير أنهم في النهاية يُبعدون على غير رغبة منهم، عندما يجتمع الجميع عليهم؛ من قادة متحكمين ورفقاء حاسدين وعموم الأفراد الذي تربوا عن قصد وغير قصد على هذه التقليدية وهذه البساطة.
يخشى عموم الأفراد في داخل التنظيمات والأحزاب الإسلامية من هؤلاء النابهين المجددين الأحرار، حتى لا يأخذوا الحركة بعيداً عن المنطلقات والأسس، فيكون الزيغ والحيد وتكون النهاية، ويميلون لغيرهم من التقليديين البسطاء الذين يرتضون الحال الواقع ويدافعون عنه ويجاهدون من أجل حمايته، حتى تسول نفوس بعضهم لهم أن يخططوا ويتآمروا من أجل إبعاد البعض ممن يُخشى منهم من أهل التغيير والتطوير والرؤى المختلفة.
ولا بد أن يدرك عموم الأفراد في داخل التنظيمات والأحزاب الإسلامية أنهم بذلك يميتون التنظيمات والأحزاب موتاً بطيئاً، وأن الضرر الواقع على الحركة بذلك ليس أقل من أن يقودها المجددون المبدعون حتى ولو كانوا متهورين مندفعين.
الحالتان تتساويان في الخطورة على الحركة الإسلامية…
أن تؤول قيادتها للتقليديين البسطاء، الذين يعيشون خارج الزمن والواقع، ولا يأبهون لتغيّر الظروف والمعطيات، فتموت معهم الحركة يوماً بعد يوم، حتى تنتهي إلى التلاشي التام في قابل الأيام.
وأن تؤول قيادتها لأهل التطوير والتغيير والإبداع، غير المتريثين ولا المتثبتين ولا المنضبطين، فيحدث تطويرهم وتغييرهم انحرافاً كبيراً عن المنطلقات والأسس، حتى تصبح الحركة حركة غير الحركة، وتصبح الفكرة فكرة غير الفكرة.
والحل في الوسط البعيد عن طرفي التطرف، الحل في أن يبحث الأفراد دائماً عن أولئك القادة الأكثر فهماً للمنطلقات والأسس، والأكثر إيماناً بها وحرصاً عليها ودفاعاً عنها، مع سعيهم للتطوير والتغيير والتحسين في كل ما يجوز أن يطاله التطوير والتغيير والتحسين.
أولئك الذين حباهم الله ذكاءً فطرياً وعقولاً نابهة مبدعة، غير أنهم يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، فلا يقربون من الثابت، بل ويجاهدون من أجل أن يبقى ثابتاً، ويعمدون إلى المتغير فيغيرونه إلى ما يناسب زمانهم وواقعهم.
وهذه مهمة كبيرة غير بسيطة، لا يصلح لها البسطاء، ولا يقدر عليها إلا العقلاء الأذكياء النابهون المبدعون، الأوفياء الثابتون المخلصون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.