قبل عقود من اليوم، ومن أعلى مرتفعات جبل درسة وبداية سلسلة جبال الريف، صدع صوت الراحل العظيم الموسيقي "عبد الصادق شقارة" بألحان وكلمات خلدتها الذاكرة المغربية، فمن داخل أسوار ابنة غرناطة، مدينة تطوان المغربية، تغنَّى الراحل شقارة بجمال الموشحات الأندلسية، وأحيا في محبيه جميعاً ذكرى الأندلس ومرارة فقدانها، لتظل مقطوعته "لما بدا منك القبول" من المقاطع التي علا صوته بها مستهلاً بمقطع من موشح زمان الوصال لصاحبه "لسان الدين الخطيب"، معلناً بصوته عن زمان الوصل بالأندلس، ليحملنا بشذى صوته وألحانه إلى عبق الأندلس وتاريخها، ويخيل لك أن الأندلس نبتة مزهرة فاقت بعطرها ورحيقها كل الأزهار والنباتات، إحساس سيخالجك ويداعب حواسك، ويثقل كاهلك كلما تردد اسم شقارة وألحانه في مجلسك.
فما نعتبره نحن كنزاً في عصرنا، ونتغنى به في أفراحنا وأعيادنا، كان فيما مضى زلة وإثماً كبيراً حوكم عليه أفراد وعلقوا على الخوازيق في مشاهد يعتصر لها القلب ألماً، ونشرت بشأنه مراسيم وأقيمت على أثره اجتماعات.
ورغم كل أساليب الوعيد الذي استخدمتها الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش، سعى الموريسكيون للحفاظ على موروثهم الأندلسي وتوريثه عبر الأجيال، وعاش بذلك في عمارة إسبانيا ومنظرها الطبيعي وفي أدبها ومطبخها وفي آلاف الكلمات المستعارة من اللغة العربية، ونجح المهاجرون منهم لشمال إفريقيا في غرس ثقافتهم وموروثهم الشفوي والمعماري وفنون الطبخ هناك.
كثيرة هي المعتقدات والحكايات التي تعتقد أن نهاية المسلمين في الأندلس كانت بسقوط غرناطة آخر الممالك الإسلامية سنة 1492م وهجرة عدد من سكانها، متغاضين عن مصير ما يقارب نصف مليون مسلم ظلوا يعيشون هناك إلى حدود 1614م تاريخ الطرد النهائي.
سقطت غرناطة سنة 1492م، على يد الملكين الكاثوليكيين فيرناندو وإيزابيلا، بعد إبرام اتفاقية سنة 1491م مع أبوعبيدل التي نصت ظاهرياً على احتفاظ السكان المسلمين بأراضيهم وممتلكاتهم ودخلهم على الدوام، كما سمحت لهم أيضاً بالهجرة إلى شمال إفريقيا والعودة للعيش في إسبانيا بعد ذلك إن أرادوا.
إلا أن وعود التعايش الطويل المدى بين غرناطة المسلمة وسكانها الجدد لم تكن لتدوم طويلاً، فقد عمل كبار الأساقفة على تحريض فيرناندو على استئصال الطائفة "المحمدية" واسمها من إسبانيا كلها، إلا أن فيرناندو رفض هذه الطلبات بدعوى رفضه للعودة إلى الحرب مرة ثانية، فعمل على تكريس نهج تدريجي لتعزيز السيطرة النصرانية على غرناطة، وتحويل السكان المسلمين إلى مصدر دخل، حيث انعكست هذه السياسة في تعيين "إيرناندو دي طلبيرة"، الراهب الورع بالأخوية الرهبانية للقديس جيروم، وكاهن الاعتراف الملكي السابق لإيزابيلا، كأول رئيس لأساقفة غرناطة، الذي عمل بدوره على جعل النصرانية أكثر إغراءً لمسلمي غرناطة، فأصر على أن يتعلم كهنته العربية وكلف بوضع كتاب حول القواعد الأساسية للغة العربية باللغة القشتالية، كما أنه كان يدعو الوجهاء والأعيان الأندلسيين إلى العشاء؛ كي يغرس فيهم حب العادات النصرانية من جلوس على الكراسي وأكل الطعام النصراني واللبس على الطريقة القشتالية
إلا أن هذه الطريقة لم تؤتي ثمارها مع مسلمي غرناطة، فطبقاً لكتاب "الدين والدم، إبادة شعب الأندلس" فإنه وفقاً لرواية الطبيب النمساوي "يورنيموس مبنسر" الذي زار غرناطة مابين 1494 – 1495 فإنه ورغم ازدياد الوجود النصراني ظلت غرناطة إسلامية بالدرجة الأولى، إلى أن قدم إليها "ثيسينروس" وتولى زمام الأمور بمعية "طلبيرة"، لكن "ثيسينروس" سرعان ما سئم من طريقة "طلبيرة" وأسلوبه في الدعوة، وبدأ بإرسال المسلمين العنيدين إلى السجن؛ لأن التنصير بالنسبة له كان من أحد الواجبات المفروضة على العدو الكافر المهزوم، وعقب هذه الفترة قرارات نغصت حياة الموريسكيين وأذاقتهم الويلات، من إحراق للكتب والمخطوطات باللغة العربية بأمر من الملكين الكاثوليكيين وإصدار سلسلة من المراسيم الملكية، فقد شهدت غرناطة ما بين عامي 1511 و1526 إصدار سلسلة من المراسيم والأوامر كان الغرض منها استئصال خصائص المجتمع الأندلسي.
ففي يونيو 1511، صدر مرسوم ملكي بمنع الموريسكيين في غرناطة من العمل كعرابين في مراسم التعميد، وفي اليوم نفسه حظر مرسوم آخر الذبح الإسلامي للحيوانات، وأمر بأن يقوم النصارى القدامى بذبح الحيوانات أو أن يحدث ذلك تحت إشرافهم، وجاء المرسوم الثالث لمنع الخياطين الغرناطيين من صنع اللباس الأندلسي، هذا التشريع الذي كان موجهاً بالأساس إلى اللباس النسائي. وشجب المرسوم الرابع الذي صدر في يوليو 1513، النساء الموريسكيات اللاتي كن يمشين بغطاء الوجه، وأعطى لهن مهلة سنتين إلى أن تبلى ملاحافتهن، ليكون مصير مَن تخرق القانون سلسلة تصاعدية من العقوبات، تبدأ بمصادرة قطعة اللباس ثم إلى الجلد والنفي.
وفي يونيو 1526، أصدر مجمع المقلى الملكي سلسلة من التوصيات أقرت كل القيود التي فُرضت على مسلمي غرناطة في العقدين السابقين، فلم يعد مسموحاً للموريسكيين بكتابة اللغة العربية أو تحدّثها، أو أن يطلقوا أسماء أندلسية على أطفالهم، ومنعت النساء الموريسكيات من تخضيب أيديهن وأقدامهن بالحناء أو تغطية وجوههن، وأمروا بأن تطل أبواب بيوتهم المفتوحة أيام الجمع وفي حفلات القران، ولم يسمح لهم بدفن موتاهم دون إشراف أحد النصارى القدامى، وغذا الجراحون والأطباء الذين يجرون عمليات الختان يعاقبون بالإبعاد أو مصادرة الممتلكات؛ لتدخل غرناطة فيما بعد ذلك مرحلة جديدة تمثلت في ثورة البشرات ومراسيم جديدة تنص على التطهير العرقي والديني وطغيان وتجبر لمحاكم التفتيش.
ليكون لنا لقاء مع هذه المرحلة في تدوينة جديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.